كامل مصطفى الشيبي - صورة أثناء مناقشته رسالة الماجستير في جامعة القاهرة |
أبو العَمَيْطَر أو ثورة السفيانيّ المُنتظَر
كامل مصطفى الشيبي*
كانت الثورات على السلطة
الحاكمة وخصوصاً الأموية منها أمراً معتاداً في المجتمع الإسلامي ابتداءً من ثورة الحسين بن علي (عليه السلام) في سنة [61ه / 680م] ثم توالت الثورات.
وقام زيد بن علي بن الحسين بثورته سنة [121هـ / 738م] وبعده ابنه يحيى، ثم قامت
ثورة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب سنة [125هـ / 742م]،
وتلته حركة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، المُلَقَّب
بالنفس الزكية سنة [145هـ /762م] في المدينة وتلتها ثورة أخيه ابراهيم في السنة
نفسها في البصرة التي اُنشِأت على أثرها بغداد أيام (أبو جعفر) المنصور واستقر بُنْيان
الدولة العباسية وإن لم تنقطع الثورات العلوية بعد ذلك.
ويُلاحظ أنّ سقوط الدولة
الأموية سنة [132هـ / 749م] أدى إلى فرار عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد
الملك بن مروان المُلَقَّب بالداخل وصقر قريش إلى الأندلس سنة [138هـ / 755م]
وتأسيسه الدولة الإسلامية فيها. وفي هذا المجال يُذْكَرُ أنّ أخاً لمحمد بن عبد الله
بن الحسن المذكور استطاع أنْ يُفْلِتَ من قبضة المنصور ويؤسس مُلْكاً في فاس (في
المغرب الحالية) ونعني به ادريس بن عبد الله بن الحسن المثنى الذي أسس دولة
الأدارسة سنة [172هـ / 788م]. ولم تقْتَصِر الحركات الثورية على العلويين ضد
الأمويين والعباسيين وإنما انتقل هذا الطموح إلى الأمويين انفسهم بعد استقرار
الدولة العباسية، فرأينا رجلاً من أمراء الأمويين هو علي بن عبد الله بن خالد بن
يزيد بن معاوية بن أبي سفيان يقوم بثورة أموية على العباسيين في محاولة لاسترداد
الحكم الأموي سنة [195هـ / 810م] وهي السنة التي خَلَعَ فيها الأمين أخاه المأمون
عن ولاية العهد واستَعَرَت الحرب بينهما. ومن الطريف أنّ علياً السفياني هذا كان
من أسباط البطل العباس بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي استشهد مع أخيه
الحسين في واقعة كربلاء سنة [61هـ / 680م]، فكان نموذجاً غير مألوفٍ لاتحاد
الأمويين مع العلويين في ثورةٍ واحدةٍ طالما فرَّقتْهم مِن قبل.
ونعود إلى علي بن عبد الله
السفياني لنبدأ في العرض لثورته ولشخصه فنقول: هو كما ذكرنا ممن ينتهي نسبهم إلى الفرع
السفياني من الأمويين، الفرع الذي انتهى بوفاة معاوية بن يزيد الأموي وتَسَلُّم
مروان بن الحكم السلطة بانتصاره على خصومه في الحروب الأهلية التي عاصرها. فكأنَّ
حركة علي بن عبد الله السفياني كانت بمثابة يقظة السفيانيين بعد أن استبعدهم أبناء
عمومتهم المروانيين.
ذكر المؤرخون أن علياً
السفياني ولِد وعاش في دمشق سنة[105هـ/723م] وأمّه نفيسة بنت عبيد الله بن العباس
بن علي بن أبي طالب [كما في جمهرة أنساب العرب ص: 67]. وتُظْهِر هذه الحقيقة أمراً
قد يدعو إلى الاستغراب، إذ كيف يتحد الأمويون والعلويون في زيجةٍ لم تمتد إلى ضحية
من ضحاياهم فقط، بل من أغرب الأمور هنا أنْ نشاهدَ أموياً يُسمّى بـ«علي» ويُكَنّى
بـ«أبي الحسن»، وهما اسم علي بن أبي طالب وكنيته. ونستطيع أن نعلل هذا الأمر
باجتهاداتنا دون الرجوع إلى نَص يثبت ذلك. والظاهر أن أسرة السيدة نفيسة، والدة
أبي العميطر، بقيت في بلاد الشام بعد قتل الحسين بن علي كوْنها شامية السكن من
قبيلة كلاب، مما يبين لنا كيف تمت هذه الزيجة وكيف وُلِد أبو العميطر من امرأة من
نسل العباس بن علي بن أبي طالب وكيف سُمِّيَ بعلي وكيف كُنِّي بأبي الحسن.
لقد نشأ علي السفياني نشأة
علمية في عُرْفِ ذلك الزمان من اهتمام بالحديث والأحكام الفقهية ومسائل التاريخ
وما إلى ذلك. وقد وُصِفَ عليٌ المذكور بأنه كان من أهل العلم والرواية في قول المرحوم
"محمد كرد علي" في كتابه «خطط الشام» [(1/183)، المطبعة الحديثة، دمشق 1925].
والظاهر أنّه كان ممن يهتمون باللغة وأسرارها، فقد ذكر عنه ابن عساكر وابن الأثير
والذهبي وغيرهم أنه جمعه مجلسٌ مع بعض معارفه فسألَ الجالسين عن كُنية الحِرْذَوْن
(وهو ذكر الضب) فأنكروا علمهم بذلك، فقال: كنيته أبو العميطر على وزن (سفرجل)، «فلقبوه
فكان يغضب. فقال لنا شيخٌ من القدماء: ترون هذا اللقب؟ سيخرجه إلى أمر عظيم!» أنظر
مثلا تاريخ ابن عساكر (2/26)، وهذه اشارة إلى تسلط الغيبيات على عقول المجتمع
الاسلامي في ذلك الوقت.
وتولدت فكرة الثورة على
العباسيين في أذهان أهل الشام عندما دبّ الخلاف بين الأمين والمأمون بعد اسقاط
الأمين أخاه المأمون عن ولاية العهد سنة [195هـ / 810م]، وفكَّروا في علي بن عبد
الله السفياني رئيساً او قائداً لهذه الثورة بوصفه رجلا حكيماً مثقفا قادرا على
قيادتهم وفي سن مناسبة لمثل هذا العمل. لكنّ أبا العميطر كان متردداً يخشى من
الفشل فألحَّ عليه الشاميون كثيراً إلى درجة أنهم كانوا يخرقون حاجز الخوف والسرية
في العمل باتصالهم به من خلال سَرَب او نفق من تحت بيته. وكانت تلك فكرة رجل من
اتباعه يسمى خطابا الدمشقي المعروف بابن وجه الفُلس (كذا بالضم) وهو مولى الوليد
بن عبد الملك. وانتهى الأمر بقيام هذه الثورة سنة [195ه / 810م] وتأسيس دولة أموية
جديدة. ولُقِّبَ أبو العميطر بأمير
المؤمنين ووُصِفَ بمهدي الله مرة والسفياني مرة أخرى والرِّضا من آل محمد (!)
ثالثةً والمختار رابعةً (ابن عساكر ص 29 – 31). وارتضى أبو العميطر أبا مسهر الغساني (عبد الأعلى بن مسهر
140 – 218 هـ) قاضياً له وكان ممن امتحنهم المأمون فيما بعد بمحنة خلق القرآن المعتزلية
فرفضَ أولاً ورضخ أخيراً وتوفي في سجن المأمون.
والمهم في هذا ان حركة أبي العميطر
بدأت في عهد الأمين. فأرسل إليه هذا الخليفة جيشاً للتغلب على ثورته بقيادة علي بن
عيس بن ماهان الذي عاجلته المنيّة قبل أن يصلَ إلى دمشق. ثم أردف الأمين حملته
الأولى بأخرى بقيادة محمد بن صالح بن بيهس الكلابي (توفي 210 ه / 825م) استغلالاً
لنسبه في الكلبيين الشاميين كما في الأعلام (7/31).
وبقي أبو العميطر في دمشق واتسع ملكه إلى أن بلغ صيدا في
جنوب لبنان الآن كما ذكر ذلك كله ابن الأثر في «الكامل» في حوادث هذه السنة. وقد
وُصِفَ أبو العميطر مع شهرته بالعلم وأخذ
الناس عنه بأنّه تحول إلى إنسان ظالم «وأساء السيرة فتركوا ما نقلوا عنه» (أنظر
ابن الأثير في الموضع نفسه). ويذكرنا هذا السلوك بسيرة عبد الملك بن مروان الذي
سار من قبل بهذه السيرة وانتهى بضرب الكعبة بالمنجنيق على يد عامله وموضع ثقته
الحجاج. ومن أفاعيل أبي العميطر بعد سيطرته على دمشق أنه كان يحرق بيوت خصومه.
وذكر الاستاذ محمد كرد علي انه: «كان القرشيون [= الأمويون من اتباعه] وأصحابه من
اليمن يمرون بالدار من دور دمشق فيقولون: «ريح قيس نشم (وكانوا خصومه) من هذه
الدار فيضرمونها بالدار وهو راكب يمشي بين يديه 500 رجل على رؤوسهم القلانس
الشاميات وفي أيديهم المقارع» [خطط الشام 1/184].
وفي هذه الأثناء وصلت القوة
العباسية إلى دمشق بقيادة ابن بيهس الكلابي ويبدو أنّها عسكرت في مكان غير المكان
الذي كان فيه أبو العميطر فَجَرَت بين
الفريقين اتصالات أسفرت عن وقائع عسكرية قتل بسببها ولدٌ لأبي العميطر اسمه
القاسم، فضعفت قوته كما في «الكامل» لابن الأثير (ص 147). وفي هذه الأثناء اعتلَّ
ابن بيهس فلم يستطع إكمال مهمته بإلحاق الهزيمة بأبي العميطر فكلّف أعوانه
الشاميين باختيار أمير من نسل عبد الملك بن مروان لمقارعة أبي العميطر وهو مسلمة
بن يعقوب بن علي. فنجح هذا وكان أن قبض على ابن العميطر «وقيّدَهُ وقبض على بني
أمية (الموالين لأبي العميطر) فبايعوه» (أنظر ابن الأثير 147). وتحول ابن بيهس إلى
قتال مسلمة بأن عاد إلى دمشق فحصرها فسلّمها إليه القيسية من أنصاره وانتهت هذه
المعمعة بأن «هرب مسلمة والسفياني في ثياب النساء» (أنظر المصدر السابق) كما فعل إبراهيم
بن المهدي بعد ذلك بقليل نجاةً بنفسه من ابن أخيه المأمون. واتجه مسلمة مع اسيره
ابن العميطر إلى المزّة قرب دمشق ليَسْلما بنفسيهما من سطوة ابن بيهس، وبعد مدة
مات مسلمة هناك وصلّى عليه أبو العميطر
ولم يلبث أن مات هو أيضاً عن عمر يناهز الخامسة والتسعين وذلك سنة [198 هـ/ 813 م]
فدفنه أهل المزّة «في حانوت وقصدوا في ذلك أن يخفى قبره حتى لا يُنْبَش» كما في
تاريخ ابن عساكر ص 70، والحانوت كما في المعاجم هو الخَمّارة مما يوحي أن قبر أبو العميطر كان معرضاً للنبش من قبل خصومه وتلك
عادة ترد كثيراً في تأريخنا القديم والحديث.
غفر الله لأبي العميطر
ورحمه فقد كان على علو سنِّه طموحا وجاداً وإن فشل في تحقيق أهدافه.
وكان أبو العميطر يشعر
بأهمية نفسه ويفخر بنسبهِ ويعدّها أهلاً للمعالي، فمِنْ مفاخره انه كان يقول: « أنا
ابن شيخيْ صِفِّين» في اشارة إلى نسبه العلوي والأموي معاً وكذلك كان يقول: «أنا
ابنُ العِيرِ والنَّفيرِ» إشارة إلى وقعة بدر التي كان المسلمون يودون أن تنتهي
باستيلائهم على قافلةِ أبي سفيان التجارية فانتهت بالحرب والنصر الاسلامي وذلك
اشارة إلى قوله تعالى: « وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ
أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ
وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ
الْكَافِرِينَ» (8 الانفال 7). فكأنَّ أبا العميطر يشير بذلك إلى انتمائه إلى أبي سفيان
الذي كان يقود القوة العسكرية القرشية وإلى النبي (ص) الذي كان يتمنى أن ينتهي الأمر
بالاستيلاء على القافلة التجارية.
وكان أبو العميطر شاعراً رقيق الشعور وإنْ كان لا يُعدُّ
من الشعراء التقليديين لأيامه؛ فقد وجدنا له قطعا صغارا وكبارا تصوِّرُ ما كان
يمارسه في حركته الثورية هذه، نجدها في كتب التاريخ ومنها خطط الشام للاستاذ محمد
كرد علي (أنظر 1/183) وتأريخ ابن عساكر (3/34) وغيرهما. ومِن أشعاره قطعة يصف فيها
حال الأمويين بعد سقوط دولتهم وانتشار التخاذل فيهم واستيلاء ابن بيهس على
مصائرهم:
يا
ليتَ شعري وليتٌ غير نافعة
|
وللأمور بما
يجري عقابيلُ
|
بني أمية إن الرأي مشترك
|
والنصح
عند ذوي الالباب مقبولُ
|
هذا
ابن بيهس قد ابدى عداوتكم
|
فالحر قائمة والسيف مسلولُ
|
وأنتم دبر عن
ملككم جدلاً
|
وفيكم السادة الغرُّ البهاليلُ
|
يحمي ابن بيهس ملكاً لا لعترته
|
لكن
لدينا لها بالعرض تعجيلُ
|
وهذه أبيات تذكرنا بنصر بن
سيّار قائد الأمويين [توفي 131 هـ / 748 م] حين أحسّ بسقوط دولتهم فقال:
أرى
تحت الرماد وميض جمر
|
ويوشك
أن يكون له ضرام
|
فقلت
من التعجب ليت شعري
|
أأيقاظ أمية أم نيام
|
ومن يدري ماذا كان يحدث لو
أن أبا العميطر نجح في مسعاه الثوري هذا فأسَّسَ مُلكاً أموياً علوياً يغير مجرى
التاريخ ويفتح صفحة جديدة في تحول الأعداء إلى اصدقاء وإن كان ذلك امرا لا يُماشي
منطق التأريخ، إذْ رأينا كيف تحوَّلَ العباسيون والعلويون من أصدقاء أحمّاء إلى أعداء
شديدي العداوة وليس لنا إلا أن نستشهد بقول الشاعر العربي (أبو الطيب المتنبي):
مَا
كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ
|
تجرِي
الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفنُ
|
ومن يدري لعلَّ أبا العميطر
كان يجول بخاطره في ثورته هذه قول الشاعر (قيس بن الملوّح):
وقد يجمع الله الشتيتيْنِ بعدما
|
يظنّان كلّ الظنِّ أنْ لا تلاقيا
|
وعلى
أيّة حال، فقد لاحظنا خلو حركة أبي العميطر إلى العلويين وشيعتهم من المعاصرين في
أوقات كان الإمام جعفر بن محمد الصادق [80 هـ - 148 هـ/ 699م – 765م] قد وضع لهم
فقههم المستقر وعرف من متكلميهم هشام بن الحكم [توفي 179هـ/ 795م] مفلسف فكرة
العصمة. فكأنّ حركة أبي العميطر كانت سياسية بحتة لم تداخلها حماسات مذهبية أو ما
إلى ذلك، ولعلَّ ذلك يمثل مظهراً من مظاهر ضعفها أو ضيق أفقها في ذلك الوقت.
ويذكِّرُنا ذلك بما قام به المأمون من ثورة حقيقية على قومه العباسيين من تعيينه
الإمام علي بن موسى الرضا [148 ه - 203 هـ/ 765م – 818م] ولياً لعهده توطيداً
لسلطته وقضاء على معارضيه. ولما تم التراضي بين المأمون ورهطه العباسيين انقلب على
الإمام الرضا نزولاً عند رغبتهم. وهكذا حال السياسة الملعونة في كل عصر.
ونأملُ،
بعدُ، أن نكونَ قد طَرَقْنا موضوعاً تأريخياً لم يخطر على بال كثير من القرّاء مع
أملنا ان يكون مجالاً لمزيد من الدرس والاعتبار.
والله
مِنْ وراء القصد
* قسم
الفلسفة – جامعة بغداد
[نشر
المقال في جريدة النهضة البغدادية. العدد 19. بتأريخ 18 آب 2003]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق