السبت، 7 أبريل 2018

دجلة والفرات في الشِّعْرِ العراقي – قصيدة «يا دجلة الخير» للشاعر محمد مهدي الجواهري نموذجاً

دجلة والفرات في الشِّعْرِ العراقي – قصيدة «يا دجلة الخير» للشاعر محمد مهدي الجواهري نموذجاً

احمد هاشم الحبوبي

ينسابُ نهرا دجلة والفرات وتنتشر روافدهما في جسد العراق كما تنتشرُ شرايينُ الدم في جسم الإنسان. ينبع كلا النهرين من الأراضي التركية ويبلغُ طول الأول ألفاً وسبعمئة وثمانية عشرَ كيلومتراً، ألفٌ وأربعمئةٍ منها في العراق، وتقع على ضفافه مدن الموصل، بيجي، تكريت، سامراء، بغداد، الكوت ، المدائن ، العمارة والقرنة. يجوز تأنيثه على اللفظ وتذكيره على نية النهر[1].

أمّا الفرات، ومعناه الماءُ العذب، فيبلغُ طوله ألفيْن وتسعمئة وأربعين كيلومتراً، ألفٌ ومئةٌ وستون كيلومتراً منها في العراق، وتقع على ضفافه مدينةُ القائم، حديثة، هيت، الرمادي، الفلوجة، الهندية، الديوانية، الشامية، الكوفة (النجف)، السماوة، الناصرية، البصرة وقضاء المدينة. ثم يلتقي النهران في المدخل الشمالي لمدينة البصرة ليكوِّنا شط العرب.

إنّ وجود النّهر في العراق ليس ترفاً ، بل هو أصل نمائه وازدهاره لأنه من البلدان القليلة المطر. ويكادُ النهر أن يكونَ العاملَ الأبرزَ الذي يرسم ويحدد التوزيع البشري والمديني فيه، فهو، والحديث يشمل نهري دجلة والفرات، المسؤول عن تأمين اكسير الحياة، فصارت ضفافهما المهد الأساسي لابتكار الزراعة المروية قبل حوالي ثمانية آلاف عامٍ. كما مارست الشعوب المقيمة على ضفافهما صيد الأسماك والنقل النهري والتجارة البينية، وتتابعت الأنشطة البشرية الاقتصادية وبنيت آلاف المدن والقرى عبر آلاف السنين على ضفافهما، بعضها لايزال قائماً. وعلى تلك الضفاف انشئت أقدم الحضارات وأغزرها انتاجاً وعطاءً، على الصعيدين الروحي والعلمي.

لم تفارقِ المدنُ والقرى ضفافَ النهرين واستمرت تنشأ على ضفافه، أو على ضفاف روافده وتفرعاته، غير عابئة بثورانهما الموسمي المتمثل بالفيضان الذي كانَ يوقِعُ أفدحَ الخسائر بالمدن القائمة على ضفافه. ولم يحصل يوماً أن لامَ أحدهم النهر على غضباته تلك، بل كان الناس يلومون أنفسهم ويتوسلون آلهتهم كي تخفف عنهم عواقبَ تلكَ الثورات. ويبدو أنّ العراقيَّ ورثَ طبعَ الثورةِ والتقلُّب من النهرين الخالديْن اللذين يمدانه بأسباب بقائه.

كما أدخلَ العراقيون النهرَ في اديانهم وأضفوا عليه الكثير من القداسة، حالهم حال معظم الحضارات التي قامت على ضفاف الأنهار. ومازالت بعض الأديان في العراق تمارس طقوسها الدينية – التعميد والتطهر – في مياه الأنهار الجارية لاعتقادها أنها مياه مقدسة تطهر الروح من الخطايا، كما في الديانة المندائية التي تضفي الكثير من القدسية على نهر الفرات. وجاءَ في كتابهم المقدس، الكنز ربا: (صغيراً أنا بين الملائكة الأثريين طفلاً أنا بين النورانيين ولكني أصبحت عظيماً لأني شربت من ثغر الفرات). واستمرَّ الحالُ مع الديانات الإبراهيمية الثلاث، حيثُ وردَ الفراتُ في الكتابِ المقدس (العهد القديم) على أنه أحد الأنهر المتفرعة من الجنة [سفر التكوين - الاصحاح الثاني - الفقرة 14]. وورد حديث عن النبي محمد (ص) أخبرَ فيه مستمعيه بأنَّ الفرات من أنهار الجنة [صحيح مسلم - المسند الصحيح/2839: «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة»].
وعرفاناً بالجميل، يحرصُ ابنُ الرافدين، منذ الأزل على تقديم أسمى آيات الامتنان والاعتزاز للنهر. وإمعاناً في الاعتزاز والاحتفاء، فهو يستخدمُ الشِعرَ، ديوان العرب ومستودع بلاغتهم وفنهم الأدبي الأرقى والأرقُّ والأقدم والأحبُّ. والحديث يختص بالناطقين باللغة العربية ممن سكنوا ضفاف وحوض النهرين العظيمين دجلة والفرات. وقلما يخلو ديوان شِعر من ذكر أحد النهرين أو كليهما. وذِكرُ كل الشعراء وقصائدهم يستلزم تسويد الكثير من الصفحات، مما لا تتسع له صفحات هذا البحث. لذلك سيُكتفى بشعراء القرن التاسع عشر والقرن العشرين عموماً، مع التركيز على شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري وقصيدته «يا دجلة الخير».

العراق وبغداد ودجلة

لقد كانَ العراق قبلةَ عرب الجزيرة وجنَّتهم الموعودة، قبل الإسلام وبعده، وكانوا يسمُّونه «أرض السواد». وقد عللَ ياقوت الحموي (574 - 626 ه / 1178 – 1225 م) سبب التسمية «لسواده بالزروع والنخيل والأشجار لأنه حين تاخم جزيرة العرب التي لا زرع فيها ولا شجر كانوا إذا خرجوا من أرضهم ظهرت لهم خضرة الزرع والأشجار فيسمونه سوادا كما إذا رأيت شيئا من بعد قلت: ما ذلك السواد؟ وهم يسمون الأخضر سوادا والسواد أخضر». ثم اختيرت عاصمة للدولة العباسية (132- 656هـ / 750- 1258م). ثم أسس الخليفة أبو جعفر المنصور بغداد واختارها عاصمة للدولة الجديدة. وقد بلغت أوج ازدهارها في زمن الخليفة الخامس هارون الرشيد.

ولا يمكن أن تُذْكَرَ بغدادُ دون أن يُذْكرَ نهرُ دجلةَ، فعلى أساسهِ اختيرتْ هذه البقعة لتصبح عاصمة للدولة العباسية العتيدة. ولدجلة قصةٌ مع الشاعر علي بن الجهم (188 - 249 هـ / 803 - 863م)، العربيُّ الخشن القادم من الصحراء. حيثُ قصدَ ابن الجهم بغداد بِنيَّةِ مدحِ الخليفةِ المتوكل (205 هـ - 247 هـ / 822 م - 861 م)، فوقفَ في حضرته وأنشدَ مادحاً:

أَنتَ كَالكَلبِ في حِفاظِكَ لِلوُد*** دِ وَكَالتَيسِ في قِراعِ الخُطوبِ
أَنتَ كَالدَلوِ لا عَدِمناكَ   دَلوا ***مِن كِبارِ الدِلا    كَثيرَ الذَنوبِ

لم يستحسنِ المتوكلُ ما جاءَ في القصيدةِ من تشبيهات، لكنه عرفَ حُسْنَ مقصد الشاعر وتفهم خشونة ألفاظه، وأرجعها لحياة البادية التي لم يخبر ابن الجهم غيرها، فأمر له بدار وبستان حسن على شاطئ دجلة، قرب الجسر ليطلعَ على الناس في غدوهم ورواحهم. كما أوصى له برفقة حسنة من الأدباء يتناوبون على مجالسته ومحادثته، وتركه على هذه الحال ستة أشهر. ثم استدعاه لينشدَ له. 
عيونُ المها بين الرصافـةِ والجسـرِ *** جَلَبْنَ الهوى من حيثُ أدري ولا أدري
أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن سَلَوتُ *** وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ
وَبِتنا عَلى رَغمِ الوُشاةِ كَأَنَّنا *** خَليطانِ مِن ماءِ الغَمامَةِ وَالخَمرِ

إنَّ الفرقَ كبيرٌ بين القصيدتين، ليسَ في المفردات فحسب، بل في الرقة والعذوبة والموسيقى. ويبدو أنَّ دجلة قد غسلت روح الشاعر وشذَّبتْ ذائقته مما علِقَ بها من خشونة الصحراء وجدبها، فخرج بتلك التحفة الفنية الخالدة.

لم يحصرِ الشعراءُ اهتمامهم بأحد الرافدين دون الآخر، حيث اعتادَ الشعراءُ منذ القِدَم أن يستعيروا جبروت الفرات وعطائه، واستخدموها في المديح، كما في معلّقة النابغة الذبياني «يا دارَ ميّةَ» (توفي: 18 قـ.هـ/ -605 م)، التي امتدحَ فيها النعمان بن ماء السماء، مُشَبِّهاً جبروته وكرمه بالفرات، جاءَ فيها:

يا دارَ مَيّةَ   بالعَليْاءِ       فالسَّنَدِ*** أقْوَتْ، وطالَ عليها سالفُ الأبَدِ
أُنْبِئْتُ أنّ أبا  قابوسَ     أوْعَدَني*** ولا قَرارَ على زَأرٍ مِنَ الأسَدِ
فما الفُراتُ  إذا هَبّ الرّياحُ   لـه *** تَرمي أواذيُّهُ العِبْرَينِ بالزّبَدِ
يَمُدّهُ كلّ وادٍ    مُتْرَعٍ،      لجِبٍ *** فيه رِكامٌ من اليِنبوتِ والخَضَدِ
يظَلُّ، من خوفهِ، المَلاَّحُ مُعتصِماً *** بالخَيزُرانَة، بَعْدَ الأينِ والنَّجَدِ

أما سحرُ دجلةَ وعذوبة مائه فكانا محل اعجاب كل زوّار بغداد، فلم يفت أبو العلاء المعرّي (363 - 449هـ / 973 -1057م) القادم من بلاد الشام أن ينوِّهَ بمائه ونخيله، فأنشد قائلاً:

كلفنا بالعراق ونحن شرخ *** فلم نلمم به إلا كهـــولا
وردنا ماء دجـلة خير ماء ***وزرنا اشرف الشجر النخيلا
وأبنا بالغلــيل وما اشتفينا *** وغاية كل شئ أن يــزولا

الرافدان في شعر العصر الحديث

احتلَّ نهرا دجلة والفرات، أو الرافديْن، مكانة كبرى في قصائد شعراء العصر الحديث، وبصور متعددة، حيثُ يوظِّفُ الشاعرُ النهر بما يتناسب وموضوع قصيدته، حيث ينبري الشاعر المُجدِّد محمد سعيد الحبوبي لوصف جلسة سمر على ضفاف دجلة في بغداد، وكأنّهُ يعود بنا أحدَ عشرَ قرناً إلى الوراء ليصفَ لنا أحدى جلسات عليٍّ بن الجهم، ففي قصيدته «شمسُ الحُميّا»:

شمس الحمياّ تجلتْ في يد الساقي *** فشعَّ ضوء سَناها بين آفاقِ
هيفاء لولا كثيب من روادفها *** فرَّ النطاقان من نزع وإقلاقِ
وبتُ أسقي وباتت وهي ساقيتي *** نحسو الكؤوس ونسقي الارض بالباقي
في مربع نسجتْ ايدي الربيع له *** مطارف الزهر من رَندٍ وطبَّاقِ
تشدو العنادل في ارجائه طربا *** والغصن يسحب فيه ذيل أوراقِ
والنهر مطٌرِدُ والزهر منعكِسٌ *** والناي ما بَينَ تقييدٍ وإطلاقِ

وفي قصيدة أخرى يتغزَّلُ الحبوبي بـ«غزال»من الكرخ، وكأنّه يريدُ أنْ يكملَ رسمَ النصف الثاني من لوحة ابن الجهم الذي تغزَّلَ بـ«مهاه» من جهة الرصافة:

يا غزال الكرخ واوجدي عليك *** كاد سرِّي فيك أن يَنْهتكا
هذه الصهباء والكأسُ لديك *** وغرامي في هواك إحتَنكا
فاسقني كأساً وخُذْ كأساً اليك *** فلذيذُ العيش أن نشتركا
اترع الأقداحَ راحاً قرقفاً *** واسقني واشرب أو اشرب واسقني
فلمُاك العذبُ أحلى مرشفا *** من دم الكرم وماء المزنِ

والطريف أنّ الحبوبي كتبَ خمرياته الرائعة دون أن يتذوق الخمرة يوماً، سائراً بذلك على نهج سابقيه من الشعراء الفحول الذين وصفوا الخمر دون أي سابق تجربة. وقد نبَّهَ الحبوبيُ على ذلك في نفس القصيدة قائلاً: 

لا تخل ويكَ، ومَن يسمع يخل، *** إنني بالراح مشغوف الفؤاد
أو بمهضوم الحشا ساهي المقل *** أخجلت قامته سمر الصعاد
غيرَ أنّي رمتُ نهجَ الظرفا *** عفةُ النفس وفسق الألسنِ
وقد اثبتت الأيام صدق ادعائه.

الجواهري والرافدان

ليس بعيداً عن الحبوبي بل قريباً جداً منه، انطلقَ ابنُ مدينته، شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري (1899 – 1997م) الذي أغدقَ على الرافديْن، بالعديد من القصائد الخالدة. ولد الجواهري وترعرعَ في مدينة النجف الأشرف ثم انتقل للعيش والعمل في بغداد. وبذلك يكونُ ارتوى بماء الفرات في طفولته وريعان شبابه، ثم تكفل دجلة بسقياه حتى مغادرته العراق إلى الأبد في سبعينيات القرن العشرين. إنَّ الجواهري مشبعٌ بحب النهرين، فهو لم يكتفِ بنظم القصائد التي تفيض حبا وولهاً بالنهرين، بل أسمى ولدَهُ البكر «فرات»، وكأنّه أراد للفرات أنْ يكونَ في حضنه وتحت ناظريه ليروي عشقه لهذا النهر الذي أطفأ ماؤه ظمأهُ الأول. كما أطلق اسم «الفرات» على جريدته الأولى (سنة 1930) التي خاض على صفحاتها العديد من معاركه السياسية، وهي الجريدة العراقية الأولى التي كانت تصدر بطبعة مسائية أربعة أيام في الأسبوع. 

ويتماهى الجواهريُ مع الفرات والعراق حتى يلتبس عليه الأمر فيقول: «أنا العراق .. لساني قلبه ودمي فراته .. وكياني منه اشطار». إن هذا البيت يذكِّرنا بأبيات للشاعر الصوفي الحسين بن منصور الحلاج (244 – 309هـ / 858 – 922م) الذي تماهى مع عشقه الالهي ووصفه أبلغَ وصف قائلاً: 

أنا من أهوى، ومَنْ أهوى أنا *** نحن روحـانِ حللـــنا بدنا
فإذا أبصرتـــني أبصرتـه *** وإذا أبصرتَـــهُ أبصرتَنا
روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ *** مَنْ رَأى روحَينِ حَلَّت بَدَنا

والفراتُ في شعر الجواهري حمّالُ أوجه، فمرة هو ثائر ومرة يمثل العطاء والازدهار، ففي قصيدته «الفرات الطاغي» يصف الفراتَ بالحالتين، حيثُ يصفُ فيضانه الطاغي، مشبهاً إياه بالبحر الغاضب، مُبَيّناً أنّه حين يهيج فلا قِبَل لأحدٍ أن يقف بوجهه. كما ينوِّه بالطمى الذي يجلبهُ النهر معه ليحيي الأراضي القاحلة ويروي الأشجار والأرض التي طالَ انتظارها لمياهه.

طغَى فضوعف منه الحسنُ والخَطَرُ *** وفاض فالأرضُ والأشجارُ تنغمِرُ
وراعت الطائرَ الظمآنَ هيبتُه *** فمرَّ وهو جبانٌ فوقَه حذِرُ
وما الفراتُ بمسطاعٍ فمختَضَدٍ *** ولا بمستعبَد بالعُنفِ يُقتَسرُ
هو الفرات وكم في أمره عَجَبٌ *** في حالتيهِ وكم في آيِه عِبَرُ
طَمَى فردَّ شبابَ الأرض قاحلةً *** به وعادت إلى رَيعانها الغُدُرُ
وصفحةٍ من بديع الشعر منظرهُ *** طامي العُباب مُطِلاً فوقَه القَمَرُ
وقد بدت خضرةُ الأشجار لامعةً *** مغمورةً بسناه فهي تزدهِرُ

تشي هذه القصيدة بمقدار عشق الجواهري لنهر الفرات، فهو يتغزل بمحبوبه ويركز على محاسنه حتى في أوج فيضانه، رغم ما كانَ يجلبهُ الفيضانُ من أضرار قبل انشاء السدود والنواظم المائية الكافية. إنّ «فراتَ» الجواهري يشبه «بالضبط فرات» النابغة الذبياني الذي استعار صورة الفرات الثائر لوصف غضبة (ممدوحه) النعمان بن ماء السماء.

ومنَ النادرِ أن يبثَّ الجواهري لواعج شوقه وحبه للعراق دون أن يحضرَ أحد النهرين، ففي قصيدته «الذكرى المؤلمة» (عام 1924) التي كتبها أثناء رحلة اصطياف إلى إيران، فينشد للعراق والفرات قائلاً:

أقول وقد شاقتنيَ الريحُ سحرةً *** ومَنْ يذكرِ الاوطانَ والأهلَ يَشْتَقِ
ألا هل تعودُ الدار بعد تشتُّتٍ *** ويُجمع هذا الشملُ بعدَ تفُّرقِ
وهل ننتشي ريحَ العراقِ وهل لنا *** سبيلٌ إلى ماء الفرات المصفَّقِ

وفي قصيدته «سلام على أرض الرصافة» ( عام 1923)، يقرنُ الجواهري بغدادَ بدجلة، مقدماً ثنائية « دجلة – بغداد»، شبيهة بثنائية «الفرات – العراق»و «الفرات – النجف» و«الفرات - الثورة»:

صبوت إلى أرض العراق وبردها *** اذا ما تصابى ذو الهوى لرُبى نجدٍ
سلام على أرض الرصافة إنها *** مراح ذوي الشكوى وسلوى ذوي الوجدِ
لها الله ما أبهى ودجلةُ حولها *** تلف كما التف السوارُ على الزندِ

كما يجمع الجواهري الكرخ والرصافة في قصيدة واحدةٍ أسماها «في بغداد»، ويستذكرُ عهديْ الخليفتيْن هارون الرشيد وابنه المأمون اللذين عاشت بغدادُ عصرها في زمنهما:

يا نسمة الريح مِن بين الرياحينِ *** حيي الرصافة عني ثم حَيّيني
ان لم تمري على ارجاءِ شاطِئها *** فلَيتَ لم تحملي نشراً لدارين
ولي إلى الكرخِ من غربيِّها طَرَب *** يكادُ من هِزَّةٍ للكرخِ يرميني
حيث الضفافُ عليها النخلُ متِّسقٌ *** تنظيمَ أبيات شعرٍ جدِّ موزون
يا ربةَ الحسن لا يُحصَى لنَحصِره *** وصفٌ فكلُ معانينا كتخمين
خلِّ الملامةَ في بغدادَ عاذلتي *** علامَ في شم رَوح الخُلد تَلحيني
هيهاتَ بعد رشيدٍ ما رأتْ رشداً *** كلا ولا أمِنَتْ مِن بعد مَأمون

إنّ التشابه بين لوحات علي بن الجهم والنابغة الذبياني ومحمد سعيد الحبوبي ومحمد مهدي الجواهري، ليس بتكرار مُمِل ولا استعارة ممجوجة، إنما غزل بالمحبوب عينه، من زوايا متعددة في أزمان مختلفة. والغَزَلَ كالصلاة، التكرارُ لا يحطُّ من قدره، بل يزيده صدقية ويُسْعِدُ المحبوب.

لقد جعلَ الجواهري النهرين بمثابة أمّه وأبيه، ففي قصيدته «يا ابن الفراتيْن» (عام 1969)، يسَمّي دجلة والفرات أبويْنِ له، وقد نظم القصيدة رداً على مُتَّهِمي الشعر العمودي بالتخلف ونضوب موارد ناظميه، قاصدين الجواهري بالتحديد. وقد أحزنَه ذلك، كيف لا وهو فارسه الأبرز. وقد استهل قصيدته بالأبيات التالية:

يا ابن الفراتين قد أصغى لك البلدُ *** زَعْماً بأنك فيه الصادحُ الغرِدُ
ما بين جنبيكَ نبعٌ لا قَرارَ له *** من المطامح يستسقي ويَرتفد
يا ابن الفراتين لا تحزن لنازلة *** أغلى من النازلات الحزنُ والكمدُ 

وحين يريد الجواهري أن يستنفر جماهير الشباب للثورة والانتفاض على الواقع المرفوض، فهو يكنيهم بشباب الرافدين، مذكراً إياهم بأنهم جميعاً أبناء الرافدين والأحرى أن تتوحد جهودهم لمصلحة العراق:

ضُموا صفوفـكم ولمُّوا *** مجـداً إلى مجدٍ يُضمُّ
وتكاتفوا ينهـض بكم *** جبلٌ يُـلاذ به أشمُّ
يا غادياً لسفـوح دجلةَ *** حيث طينـتها تُشمُّ
حيث الضـفاف بكوثر*** عطرٌ قـراحٌ تُستحمُّ
قف بين دجلة والفراتَ *** وصِحْ ليسمعكَ الأصمُّ
إيهِ شبابُ الرافدينِ*** وأنتمُ الشرفُ الأتــمُّ
يا موقدي سرج الدماء ***إذا دجـا ليل أغـمُّ

نظمَ الجواهري أكثر من خمسة وعشرين ألف بيت شعر، ضَمّتها مئاتُ القصائد في ديوان ضخم من سبعة أجزاء، كلها عزيزة على قلب الشاعر وقلوب محبِّيه، لكنَّه كثيرا ما وصفَ رائعته «المقصورة» التي كتبها خلال عامي (1947 – 1948)، بأنها الأفرد والأخلد، وأضافَ: «لو فنيتْ جميعُ أشعاري لبقيت المقصورة». وضمّنها جميع طبعات دواوينه في بغداد ودمشق وبيروت، مع تقديم يشير إلى أن ثمة مئة وخمسين بيتاً أخرى، عصفت بها الرياح وأطاحتْ بها في نهر دجلة أو فُقِدَتْ لأسباب أخرى. وقد اختير مقطعٌ من هذه القصيدة ليكون النشيد الوطني العراقي. وقد جاءَ في القصيدة:

سلامٌ على هَضَباتِ العراقِ *** وشطَّيهِ والجُرْفِ والمُنحنى
على النَّخْلِ ذي السَّعَفاتِ الطوالِ *** على سيّدِ الشَّجَرِ المُقتنى
على الرُّطَبِ الغَضِّ إذ يُجتلَى *** كوَشْيِ العروسِ وإذ يُجتنى
بإِيسارهِ يومَ أعذاقُه *** تَرفّث، وبالعسرِ عندَ القنى
وبالسَّعْفِ والكَرَبِ المُستجِدِّ *** ثوباً تهرّا وثوباً نضا
ودجلةَ إذْ فارَ آذيُّها *** كما حُمَّ ذُو حَرَدٍ فاغتلى
ودجلةَ زهو الصَّبايا الملاحِ *** تَخوضُ منها بماءٍ صَرى
على الجْسِرِ ما انفكَّ من جانبيهِ *** يُتيحُ الهَوى مِن عيونِ المها

في هذه الأبيات المنتقاة من القصيدة، يُحَيّي الجواهري العراق بهضابه وسهوله ونهريه وضفافهما، وتسمية دجلة والفرات بالنهرين أو الشطّيْنِ أو الرافدين ليس بجديد. ثم يُحَيِّي النخلَ واصفاً إيّاه بـ«سيّد الشجر»، ذاكراً السعفَ والرطبَ والكرب. وقد فعلَ أبو العلاء المعري ذلك قبلهُ، ولكن ليس بنفس التفصيل والحنان. بعد ذلك يحيِّي دجلةَ وصباياها المِلاح على الجسر يتيحُ الهوى من عيون المها. هنا يُذَكِّرُ الجواهري بلوحة علي بن الجهم، وكأنّه يريدُ أن ينوِّه بجمال بغدادَ ونسائها والبساتين القائمة على ضفافه. 

بعد ذلكَ يحيِّي الشاعرُ الضفادع المقيمة على ضفاف النهر، واصفاً نقيقها برسائلَ حُبٍّ تتبادلها مع بعضها البعض. ولا يمكن أن يُدرجَ هذا المقطعُ من القصيدةِ تحت باب الوصف أو المديح، إنّهُ غزلٌ ما بعده غزل وحُبٌّ لا يجاريه حُبّ إلا حُبّ الطفلِ لأمِّهِ:

سلامٌ على جاعلاتِ النَّقيقِ، *** على الشَّاطئينِ، بَريدَ الهوى
لُعنتنَّ مِن صِبيْةٍ لا تشيخُ *** ومن شِيْخَةٍ دَهْرَها تُصطبى

إنَّ هذه الصورة الشعرية غير المسبوقة تفصحُ عن بلاغة وأصالة لا تضاهيان. ومِن خلال هذا البيت تترسخُ القناعةُ بأنَّ الجواهري يتعامل مع كل مكونات المشهد على أنها كائنات عاقلة. لقد أمتد عشقه وهيامه بالنهر ليشمل كل توابعه التي لا يمكن فصلها عنه، كحال الشمس وأقمارها.

وأخيراً، لا بُدَّ مِنْ وقفةٍ في حضرةِ «يا دجلة الخير»، واسطةُ القلادة، الجوهرة التي تبرز على كل ما حولها من جواهر، القصيدة التي كتبها الجواهري أثناء غربته في براغ (عاصمة جيكيا - جيكوسلوفاكيا آنذاك) سنة 1962. وقد ضَمَّنَها أرقى صوره الوصفية، مستخدما قدرته اللغوية ونفَسه الشِّعري الطويل. واختارَ دجلةَ رمزاً للوطن ليناجيه ويبثه شوقه ويشكو له ظروف الغُرْبة والعَوَز والشُّعور بالاضطهاد [8]. وجاءَ في مطلعِ القصيدة:

حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني *** يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البستاتينِ
حييتُ سفحَك ظمآناً ألوذُ به *** لوذَ الحمائمِ بين الماءِ والطين
يا دجلةَ الخيرِ يا نبعاً أفارقُهُ *** على الكراهةِ بين الحِينِ والحين
إنِّي وردتُ عُيونَ الماءِ صافيةَ *** نَبْعاً فنبعاً فما كانت لتَرْويني
أتَضمنينَ مَقيلاً لي سَواسِيةً *** بين الحشائشِ أو بين الرياحين؟
خِلْواً مِن الـهمِّ إلاّ همَّ خافقةٍ *** بينَ الجوانحِ أعنيها وتَعنيني

لقد وظف الجواهري النداء بـ«ياء النداء» في سبعة وأربعين موضعا، ورغم أن هذه الأداة تدلُّ على البعد، فإنَّ نداءهُ لا يتضمن دلالة البعد المعنوي، بل للدلالة على التمسك بدجلة، التي تمثل الوطن. وقد جاء أكثر هذا النداء بنداء دجلة، ولكن اللافت في هذا الاستعمال أنه لم يورد دجلة بالمنادى مفردة بل جاء ذكر دجلة مرتبطا بلازمة (الخير) [5]. واختار الجواهري جملة النداء هذه عنواناً لقصيدته. وكان اختياراً موفقا، إذ يمثل تكثيفا لمضمون النص وقضيته، ويتضمن تداخلا فنيا بين العنوان والنص، إذ يبوح العنوان بفحوى النص. وكذلك اختياراته الصوتية، فهو يعطي الموسيقى درجة عالية من الأهمية؛ ولذلك فقد أجاد في اختيار قوافيه، وأصواتها، وكذلك في بعض المؤثرات من حيث نوعية المقاطع ومواطنها، وبخاصة في القافية، إضافة إلى دور التضعيف؛ فقد أكثر الجواهري من التضعيف في نصه، لتعميق وقع الكلمة [7]. ويستمر الشاعر بالتغزل بدجلةَ مستخدماً النداء:

يا دجلةَ الخيرِ: يا أطيافَ ساحرةٍ *** يا خمرَ خابيةٍ في ظلِّ عُرْجون
يا سكتةَ الموتِ، يا إعصارَ زوبعةٍ *** يا خنجرَ الغدرِ، يا أغصانَ زيتون
يا أُم بغدادَ، من ظَرفٍ، ومن غَنَجٍ *** مشى التبغددُ حتى في الدهاقين
يا أمَّ تلك التي من «ألفِ ليلتِها» *** للآنَ يعبِق عِطرٌ في التلاحين
يا مُستَجمَ «النُّوُاسيِّ» الذي لبِستْ *** به الحضارةُ ثوباً وشيَ «هارون»

إنّ تكرار النداء وجملة النداء أكسب القصيدة تأثيراً وجعل القارئَ في انشداد وانبهارٍ دائميْن، لمعرفته بأنَّ التكرارَ سيأتي بمشهدٍ جديدٍ ليسَ أقل سحراً من سابقِهِ. ثم يعود ويؤكد لدجلةَ، إنما حبه هذا ليس سوى تأكيد وتجديد لحب وولع راسخ ومتجدد، مُذَكِّراً إياه بقصيدته «المقصورة» التي تغزل فيها بنقيق الضفادع الساكنة على ضفافه، كما جاء آنفاً، فيقول:

حتى الضفادعُ في سفحيكِ سَارِيةَ *** عاطيتُها فاتناتٍ حُبَّ مفتون
غازلتُهنَّ خليعاتٍ وإن لبست *** من الطحالب مزهوَّ الفساتين

و يناشدُ الشاعرُ قارباً يبحر في مياه دجلة متمنياً لوْ أن قطعة من شراعهِ تكون كفناً له بعد موته، ظناً منه أنه سوف لن يعود إلى أرض الوطن يوماً:

وأنتَ يا قارَباً تَلْوي الرياحُ بهِ *** لَيَّ النسائمِ أطرافَ الأفانين
ودِدتُ ذاك الشِراعَ الرخص لو كفني *** يحاكُ منه غَداةَ البَين يَطويني

وحين عادَ الشاعرُ إلى العراق عام 1969، اعتقد أن عودته إلى أرض الوطن نهائية، وإنّ شكوكه وظنونه ما كانت في محلها، فكتبَ في قصيدة «أرحْ رِكابكَ»:

يا دجلة الخير ما هانت مطامحنا *** كمـــــا وهمنا ولم نصدقكِ في الخبرِ
ها قد اقلنا بين جنبيكِ يؤنسنــــــا *** لــوذ الحمائمِ بين الطين والنــــهرِ

ولم يَدْرِ الجواهري، حينها، أن هجرة قادمة ستبعده نهائياً عن وطنه، وتطيح بكل تفاؤله. لقد صدقت نبوءته الأولى، وبقيَ شراع ذلك القارب حسرة عليه. حيثُ ماتَ الجواهري ووريَ الثرى في دمشق في مقبرة الغرباء بجوار مرقد السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب، وبقي شِعْرُهُ، وسيبقى ما بقيَ دجلة والفرات وبغداد والعراق وبقيَ ناطقٌ باللغة العربية.

لقد تغزّلَ آلافُ الشعراءِ بدجلةَ، ولكن تبقى مُعلّقَةُ «يا دجلة الخير» الأبرز والأجمل والأشمل. ولو قيضَ لدجلةَ أن ينطُقَ يوماً لقالَ: لو فُنيتِ الأشعارُ التي قِيلَتْ فيَّ كلّها، فإنَّ قصيدة «يا دجلةَ الخير» لن تفنى ابداً، بالضبط كما تنبأَ الجواهري لقصيدته «المقصورة».

الاحتفاء بالرافدين ليس مقصوراً على الشِّعر، بل هو متجذر في كل الفنون الأدبية والإنسانية. ولن يتوقف ابن الرافديْنِ عن تقديم أسمى آيات الامتنان لنهريه العظيميْن اللذين منحاه أسباب البقاء والابداع.

ويطيب لي أن أنهي هذا المقال المتواضع بوجهة نظر حول الشعر العربي، أنا أزعم أن الشِّعْرَ زاد روح الفرد العربي، رافقه منذ النشأة وسيبقى رفيقه إلى ما شاءت الأقدار. وهو بمثابة الجسر الذي ينقل الفنون الأدبية بين العصور. أقام شعراء المعلقات (في شبه جزيرة العرب) دعامته الأولى. ثم المتنبي (من مدينة الكوفة) وأقام دعامته الثانية قبل ألف ومئة عام. وبعده بألف عام برز الجواهري (من مدينة النجف) ودقّ الدعامة الثالثة. ولا أحد يعلم متى ومن سيتصدى لبناء الدعامة الرابعة. ولكنه أمر حاصل لا محالة.

المراجع والمصادر

1. الأسدي، فهد صدام: دجلة والفرات ودلالتهما في الشعر العراقي – موقع جريدة المثقف. 16-05-2016.http://almothaqaf.com/index.php/readings/899980.  html 


2. الجنابي، محمد خالد: الجواهري شاعر العرب الأكبر. موقع كتابات في الميزان 22-05-2016.http://www.kitabat.info/subject.php?id=3535 
3. الجواهري، محمد مهدي: الجواهري في العيون من أشعاره، 1998. دمشق: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر – الطبعة الرابعة.
4. الحبوبي، محمد غفار: ديوان محمد سعيد الحبوبي. 1980. بغداد – الدار الوطنية للنشر والتوزيع والاعلان – (مطبعة دار الرسالة – الكويت).
5. حمودة، حنان محمد. الأنساق الأسلوبية والبوح الدلالي في قصيدة يا دجلة الخير للجواهري، المملكة الأردنية الهاشمية / جامعة الزرقاء / كلية الآداب - قسم اللغة العربية. (2015).http://regist.zu.edu.jo/en/Collage/CV.aspx?id=1397 
6. عمران، عبد نور داود: البنية الإيقاعية في شعر الجواهري 2008، الكوفة: جامعة الكوفة – كلية الآداب – قسم اللغة العربية.
7. العوادي، عدنان حسين: لغة الشعر الحديث في العراق بين مطلع القرن العشرين والحرب العالمية الثانية. دار الحرية للطباعة – بغداد، 1985.
8. غالب، علي ناصر. لغة الشعر عند الجواهري. دار الحامد للنشر والتوزيع. بابل – العراق. 2009.
9. الموينع، سعد بن محمد راشد: ماذا قال المتنبي والجواهري عن نهر الفرات – موقع صحيفة الجزيرة السعودية. http://www.al-jazirah.com/2003/20030919/hi10.htm

«جهاد النكاح» .. القصة من البداية


«جهاد النكاح» .. القصة من البداية
احمد هاشم الحبوبي
حين تستعرُ نيران الحرب، وبالذات الحرب الأهلية، تزدهرُ تجارة الجنس والسلاح تلقائياً. وهذا ليس امتياز عربي أو شرق أوسطي، فالحال من بعضه في كل جهات الارض، وعلى مر العصور والأزمان. ولم تخلو أي حرب اهلية في افريقيا وآسيا وأوروبا من فضائع ارتكبت بحقِّ النساء. وعلى نفس الهدي سار تنظيم «داعش».
البدايةُ كانت مِنْ تونِس، حيثُ امتدت المساهمة التونسية في حرب سوريا لتشمل النساء التونسيات أيضا. فكُنَّ مِنْ أوائل المُبادرات للتطوع في صفوف «جبهة النصرة» [وبعد ذلك «داعش»] للترفيه عن مقاتلي التنظيم مستنداتٍ على فتوى مجهولة المصدر يسندها البعض لرجل الدين التكفيري السلفي السعودي «محمد العريفي» في كانون الأول 2012، دعا فيها المسلمات لمؤازرة المجاهدين عبر «جهاد النكاح»، أي التطوع لإشباع الحاجات الجنسية للمقاتلين الاسلاميين.
وتنص هذه الفتوى على إجازة أن يقوم المتمردون ضد النظام السوري من غير المتزوجين أو من المتزوجين الذين لا يمكنهم ملاقاة زوجاتهم بإبرام عقود نكاح شرعية مع بنات أو مطلقات لمدد قصيرة لا تتجاوز الساعة أحيانا يتم بعدها الطلاق وذلك لإعطاء الفرصة الى مقاتل اخر.
ورفض وزير الشؤون الدينية التونسي، نور الدين الخادمي الفتوى وقال انها لا تُلزِم الشعب التونسي ولا مؤسسات الدولة. وأكد الخادمي ان «هذه مصطلحات جديدة، ما معنى جهاد النكاح؟ الفتاوى لا بد ان تستند الى مرجعيتها العلمية والمنهجية والموضوعية، وأي شخص يفتي في الداخل او الخارج فتواه تلزمه ولا تلزم غيره من الشعب التونسي او من مؤسسات الدولة».
وأكد مفتي تونس (السابق)، الشيخ عثمان بطيخ، في مؤتمر صحافي ان «جهاد النكاح» هو فساد أخلاقي وتربوي وبغاء، وأن ستَّ عشرة فتاة تونسية تم التغرير بهن وإرسالهن الى سوريا لاستغلالهن جنسيا تحت مسمى «جهاد النكاح» من قبل مقاتلين إسلاميين يحاربون قوات الرئيس بشار الاسد. وندد بطيخ باستدراج التونسيين للقتال في سوريا تحت مسمى الجهاد، وأكد أن «سوريا ليست أرض جهاد لان شعبها مسلم والمسلم لا يجاهد ضد المسلم».
لقد دفع الشيخ عثمان بطيخ منصبه ثمنا لتصريحاته هذه التي لم ترق للحكومة التونسية التي تقودها حركة النهضة الإسلامية، والرئيس المؤقت منصف المرزوقي الذي قرر إقالته من منصبه بسبب تلك التصريحات.
وفي 28 آب 2013 اعلن مصطفى بن عمر، المدير العام لجهاز الأمن العمومي في تونس، عن تفكيك خلية لـ«جهاد النكاح» في جبل الشعانبي (وسط غرب) الذي يتحصن فيه مسلحون مرتبطون بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي.
وقال بن عمر في مؤتمر صحافي أن جماعة أنصار الشريعة التي صنفتها تونس "تنظيما ارهابيا" قامت بـ«انتداب العنصر النسائي بالتركيز خاصة على القاصرات المنقبات على غرار الخلية التي تم تفكيكها في التاسع من آب والتي تتزعمها فتاة من مواليد 1996».
وأضاف ان هذه الفتاة التي اعتقلتها الشرطة أقرت عند التحقيق معها بأنها «تتعمد استقطاب الفتيات لمرافقتها إلى جبل الشعانبي لمناصرة عناصر التنظيم (المسلح) في إطار ما يعرف بجهاد النكاح».
ثم أعلن وزير الداخلية التونسي لطفي بن جدو، في 19 ايلول 2013، أن فتيات تونسيات سافرن إلى سوريا تحت مسمى «جهاد النكاح»، عُدْنَ إلى تونس حوامل من أجانب يقاتلون الجيش النظامي السوري بدون تحديد عددهن. وقال الوزير خلال جلسة مساءلة أمام البرلمان التونسي ان أولئك النسوة التونسيات «يتداول عليهن (جنسيا) عشرون وثلاثون ومائة (مقاتل) من «جبهة النصرة». ويرجعن إلينا يحملن ثمرة الاتصالات الجنسية باسم جهاد النكاح، ونحن ساكتون ومكتوفو الأيدي».
وأضاف أن وزارة الداخلية منعت منذ آذار 2013، ستة آلاف تونسي من السفر إلى سوريا واعتقلت 86 شخصا كونوا شبكات لإرسال الشبان التونسيين إلى سوريا بهدف «الجهاد». وتابع «فوجئنا بمنظمات حقوقية (تونسية) تحتج على منع (وزارة الداخلية) تسفير مقاتلين إلى سوريا». وقال «شبابنا يوضع في الصفوف الأمامية (في الحرب في سوريا) ويعلـِّمونهم السرقة ومداهمة القرى» السورية.
بعد ذلك بدأت صحيفة الشروق التونسية، التي دأبت على التصدي لهذا الملف،على نشر العديد من التحقيقات الصحفية حول الفتيات التونسيات العائدات من سوريا بعد أن مارسن «جهاد النكاح» هناك. كما كشفت وسائل تجنيدهن وفضحت طريق تسفيرهن إلى سوريا عبر ليبيا ليحصلن هناك على جوازات سفر يسافرن بها إلى تركيا. وأفاد مصدر أمني للصحيفة أن مِن ضمن المتورطات عدد من طالبات الجامعات التونسية. ورغم مستواهن العلمي فانه تم التغرير بهن للسفر نحو سوريا والمشاركة في فضيحة ما سموه «الجهاد الجنسي» ولحسن الحظ فإنهن لم يعدن حوامل من رحلتهن لأن اثنين منهن اجهضن هناك منذ بداية الحمل في حين ان الباقيات لم يحملن منذ البداية واتخذن الاجراءات الوقائية».
وكشفت صحيفة «الشروق» في تحقيق منشور على موقعها الالكتروني في 22 ايلول 2013، ان التجنيد يتم في «المساجد والجامعات وفي المتاجر المختصة في بيع اللباس الديني وفي الحمام» مقابل مبالغ نقدية ووعود بتوفير فرص عمل لذويهن. حيث حصلت كل واحدة منهن على الفي دينار تونسي [= 1200 دولار امريكي]، مع وعد بمنحهن عشرة آلاف دينار عند عودتهن. ثم نقلن بالسيارة إلى ليبيا، ليحصلن هناك على جوازات سفر اصولية، وسافرن بعدها إلى تركيا، ومن ثم إلى سوريا، ليبدأن هناك جهادهن.
ونفت إحدى المشاركات ما تردد حول ان كل فتاة شاركت في «جهاد النكاح» مارست الجنس مع العشرات من المقاتلين قائلة «لم تتجاوز هذه العلاقات أكثر من شخصين وفي أقصى الحالات ثلاثة اشخاص».
وكانت «الشروق» قد التقت قبل التحقيق المذكور بفتاة تونسية تدعى «لمياء» التي غادرت تونس باتجاه مدينة بنغازي الليبية ومنها الى تركيا قبل ان تحط بها الرحال في حلب السورية. وذلك بعد ان «اقتنعت ان المرأة يمكن لها المشاركة في الجهاد والقضاء على أعداء الاسلام بالترويح على الرجال بعد كل غارة وغارة ليصبح جسدها ملكا لهم».
وتقول الكاتبة منى البوعزيزي التي التقت لمياء؛ أنها (لمياء) «فوجئت بعدد النساء والفتيات المقيمات داخل مستشفى قديم تحول الى مخيم للمجاهدين. حيث استقبلها هناك أمير قال عن نفسه انه تونسي ويدعى أبو أيوب التونسي. لكن القائد الحقيقي للمخيم هو شخص يمني وهو الذي استمتع أولا بالوافدة الجديدة لمياء».
وقالت لمياء أنها مارست الجنس مع باكستانيين وأفغان وليبيين وتونسيين وعراقيين وسعوديين وصوماليين ليتحول جسدها الى جسد متعدد الجنسيات، والجنين الذي في احشائها الى مجهول الهوية والنسب. وأنها التقت بنساء وفتيات تونسيات من القصرين والكاف وحي التحرير والمروج وبنزرت وقفصة وصفاقس. وقالت ان احداهن توفيت نتيجة تعرضها للتعذيب بمجرد محاولتها الهروب.
وحين عادت لمياء الى تونس، خضعت الى التحاليل الطبية ليتبيّن انها مصابة بمرض «الأيدز». كما أظهرت الفحوصات الطبية كذلك أنها حامل في الشهر الخامس والجنين مصاب بنفس المرض.
وقال المفتي السابق عثمان بطيخ لصحيفة «الشروق» (النشرة الالكترونية للصحيفة في 22 ايلول 2013) انه يجب على العائلات التونسية ان تحذر انتشار هذه الظاهرة الخطيرة وتنتبه اكثر إلى اولادها وتقوم بمراقبة تصرفاتهم حماية لهم من غسيل الادمغة الذي يتعرض له شبابنا من قبل اصحاب الفكر المتشدد قائلا في هذا السياق «ما يزعجني في هذا الموضوع ان ضحايا جهاد النكاح هن مجرد فتيات صغار السن لا حول ولا قوة لهن».
وفي السادس تشرين الاول 2013، اعلن مسؤول رفيع المستوى في وزارة الداخلية التونسية، ان عدد التونسيات اللواتي مارسن «جهاد النكاح» في سوريا مع إسلاميين يقاتلون القوات السورية، «محدود» ولا يتعدى 15 تونسية.
وقال المسؤول: «هنّ 15 تونسية على اقصى تقدير، سافرن الى سوريا بقناعة تقديم خدمات اجتماعية للمقاتلين (تمريض الجرحى والطبخ وغسل ثياب المقاتلين...). وهناك تم استغلال بعضهن جنسيا تحت مسمى جهاد النكاح». وأضاف ان «أربعا منهن عدن الى تونس، وإحداهن حامل». وتابع ان الحامل اعترفت بأنها سافرت الى سوريا لتقديم «خدمات اجتماعية للمقاتلين، واعترفت بأنها مارست الجنس معهم».
لقد رفدتنا لمياء، من غير قصد، بمعلومات اضافية عن جنسيات المقاتلين في صفوف المعارضة المسلحة، فهي أضافت الصومالي والأفغاني، الجنسيتان اللتان تتحدث عنهما الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى.
ونقل عن التونسيات العائدات من سوريا ان هناك «مسلمات من دول الشيشان وألمانيا وفرنسا ومصر والعراق والمغرب العربي مارسن جهاد النكاح مع المقاتلين». وقال ان تونس كانت لها «جرأة الاعلان عن هذه الحالات» مقارنة بدول أخرى اعتبر انها تتكتم على الموضوع.
وقد اكدت تقارير صحفية وقوع نساء سوريات ضحية لهذه الفتوى، حيث تم استغلالهن جنسيا للترويح عن المجاهدين. وقد تحدثت احداهن عن تجربتها لصحيفة «كاونتر بانش»، في 17 تموز 2013، قائلة أن زوجها أخبرها «أن المشايخ الذين يعيشون في البلدة قد دعوا جميع من في المنطقة إلى الجهاد، ولكنه أنبأها أن للجهاد أوجهاً عدة، قد يكون جهاداً بالسلاح والقتال، أو بالمال، وعند الحاجة جهاداً أسماه جهاداً بالنكاح، وشرحه لها بأنه ينبغي على الفرد أن يتزوج من جميع الأرامل اللواتي فقدن أزواجهن خلال المعارك.
في المقابل، نفى مسؤولون فى الجيش السورى الحر و«جبهة النصرة» أي وجود لـ«مجاهدات النكاح» فى المناطق التى يسيطرون عليها، كما نفوا تصريحات وزير الداخلية التونسى حول توجه عدد من التونسيات إلى سوريا للمشاركة فى ما يسمى «جهاد النكاح» مع مقاتلى المعارضة، وأن القضية مختلقة يراد منها تشويه سمعة المجاهدين.
وقال العقيد قاسم سعد الدين، عضو القيادة العسكرية العليا للجيش الحر، والقائد العام لجبهة تحرير سوريا، إن ما يتم الترويج له من موضوع «جهاد النكاح» لتونسيات فى سوريا لا يتعدى أن يكون «فبركات إعلامية أو لبس»، وأن ذلك يعد عند الجيش الحر «زنا كامل الأركان وليس جهاداً».
بهذه الشهادات الشخصية الموثّقة والتصريحات الرسمية التونسية، ابتداء بمفتي تونس (السابق) ووزير الداخلية والصحافة وانتهاءً بمنظمات المجتمع المدني التونسية، وبالأرقام، بات من الصعب القبول بأن القضية مختلقة. وقد أثبتت الأيام صحة هذه الوقائع وتوسعها وتمددها.
هذه خطوة أولى في تحرّي وتحقيق «جهاد النكاح»، وستتبعها خطوات أخرى تتحرى تجارة الجنس التي رافقت الحرب العالمية الوهابية على سوريا والعراق.
بهذه الشهادات الشخصية الموثّقة والتصريحات الرسمية التونسية، ابتداء بمفتي تونس (السابق) ووزير الداخلية والصحافة وانتهاءً بمنظمات المجتمع المدني التونسية، وبالأرقام، بات من الصعب القبول بأن القضية مختلقة. وقد أثبتت الأيام صحة هذه الوقائع وتوسعها وتمددها.
هذه خطوة أولى في تحرّي وتحقيق «جهاد النكاح»، وستتبعها خطوات أخرى تتحرى تجارة الجنس التي رافقت الحرب العالمية الوهابية على سوريا والعراق.

صدام حسين ونوري المالكي .. تطابق الحصيلة



صدام حسين ونوري المالكي .. تطابق الحصيلة

أشْبَهْتَ أعدائي فصرتُ أحبُّهم   إذ كان حظّي منك، حظّي منهمُ (أبو الشيص الخزاعي)

أحمد هاشم الحبوبي

بعدَ أنْ ضَرَبتْ دولة «داعش» أطنابها على أكثر من ثلث مساحة العراق في حزيران 2014، ونحن نعيشُ (حينذاك) أجواء الهزيمة والسخط من الطبقة الحاكمة ممثلة برئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي، التقيتُ صديقاً كان يعمل في مؤسسة حماية كبار مسؤولي الدولة من وزراء وأعضاء مجلس قيادة الثورة أيّام العهد السابق. بادَرَني صديقي قائلاً: «اليوم تيقنتُ من عراقية ووطنية (نوري) المالكي، فحين جيء به رئيساً للوزراء، ظننتُ أنّه عميلٌ لإيران أو دُمْية أمريكية، أو الاثنين معاً، إلى أنْ رأيتُ مآلَ عهده؛ احتلالٌ وخراب وجوع، فتيقَّنتُ أنه صناعة عراقية خالصة بِلا أيّة شائبة». وأكملَ (صديقي) بانبهار: «أنظُرْ إليه .. أنظر إلى حصيلته، إنّه نسخة من صدّام حسين، إنهما توأم». أعتبر صديقي مؤشر «الفشل» مقياساً وحيداً لـ«مواطنة الحاكم».

للوهلة الأولى تبدو المقارنة بين الرئيسيْن ليست واقعية أو ليست منصفة، فمن غير الممكن مقارنة «ديكتاتور» بآخر «أُخْتيرَ ديمقراطياً»، لكن أداءهما وحصيلتيْ حكمهما متطابقان إلى حد عجيب؛ في الأداء عبر تفريطهما بفرص النهوض بالبلد واحدة تلوة الأخرى، وفي الحصيلة انتهت مسيرة الأول بالعراق بلداً مُحْتَلاً دنَّسته قوات الغزو الأمريكية والبريطانية، وانتهت حقبة الثاني بغازٍ جديد، تنظيم «داعش»، الأشدُّ هولاً وفتكاً مِن سابقه. ولأسباب مختلفة يتطابق الرئيسان في حجم الدماء التي أُريقتْ والأرواح التي أُزْهِقَتْ في عهديْهما.

صدام حسين

حين تبوأ صدام حسين سدّة الحكم في تمّوز 1979، ما كان العراقُ جنة الله في الأرض، لكنّه كان يحثّ الخُطى بالاتجاه الصحيح، حيث أنفقت الدولة الكثير من الأموال لتجديد وتشييد البُنى التحتية وفق أفضل المعايير العالمية، وأقامتْ علاقات جيدة مع كل دول الجوار (ساهم صدام بنفسه في تحسين العلاقات مع إيران من خلال توقيع اتفاقية الجزائر للقضاء على التمرد الكردي المسلح الذي كانت تستعمله إيران لإنهاك وابتزاز العراق)، إضافة لأنظمة الضمان الصحي والتعليم المجاني ومحو الأمية التي شهدَ لها العالم بالنجاح، وأخيراً وضعٌ اقتصاديٌ مزدهرٌ أثمر عن فائض مالي يتجاوز الأربعين مليار دولار.

اسفرت الحرب العراقية – الإيرانية، المغامرة الأولى لصدام حسين، عن تباطؤ ثم توقف المشاريع الكبرى المُخطط إنشاؤها  بسبب انشغال الدولة بإدامة مستلزمات الحرب الطويلة، فاستبدلَ العراقُ فائضه بدَيْن خارجي بلغَ عدّة عشراتٍ من مليارات الدولارات.

وعلى الصعيد الإنساني فقد أراقَت الحرب دماء مئات الآلاف من العراقيين. ولم يَسْتَعِد العراق شبراً واحداً من الأراضي والمياه التي كانت من ضمن أسباب اندلاع الحرب. وأخيراً، وإيغالاً في العبثية وسوء التخطيط، عادَ (صدام) وأعترفَ بمعاهدة الجزائر التي ألغاها من جانب واحد في بداية الحرب.

أما على الصعيد الاجتماعي، يمكن اعتبار تفشّي ظاهرة الرشوة (التي هي أبرز معالم فساد الدولة) التي عادت تدبُّ في مختلف مفاصل الدولة وبالذات بين ضباط الجيش، ولكنه كان فساداً تحت السيطرة، فالانضباط بقي سائداً والروح القتالية عالية بما كفى لتحقيق النصر في الثامن من آب 1988. لكنّ هذا الفساد لم يبقَ تحت السيطرة، بل فلت عقاله وتسبب في صناعة قادة عسكريين فاشلين متخاذلين احترفوا الكذب والتملق والارتزاق وسيتسببون بضياع مساحات شاسعة من العراق في حزيران 2014.

رغم كل خسائر الحرب العراقية - الإيرانية، كان يمكن للعراق أن ينهضَ من جديد ويعوّض ما فاته من تنمية، إلاّ أنّ صدام ضيع هذا المُمْكِن وأقدم على احتلال البلد العربي الشقيق الكويت في 2 آب 1990. وأضاعَ فرصة ثانية لتصحيح خطيئته برفض الانسحاب لينتهي الأمر بأنْ واجهَ العراقُ العالمَ كلّه في حرب غير متكافئة بعد أن اقنعته بطانتُه وغرورُه بأن الجيش العراقي بمفرده سيسحق جيوشَ 33 دولة، تتقدمهم أميركا وبريطانيا والسعودية. لقد دمَّرَتْ قوات التحالف الدولي المئات من الجسور وكل محطات الكهرباء ومراكز الإتصالات ومئات الأبنية الحكومية. ثم أتى الحصار الدولي على ما بقي من النُظُمِ الصحية والتربوية والاجتماعية بشكل شبه كـُلّي. وأكملَ الغزو الأمريكي – البريطاني (9 نيسان 2003) المهمة بأنْ أتى على السلم الأهلي والاجتماعي في البلد.

بعد أقل من ساعة من سقوط بُرجيْ التجارة في نيويورك في 11 أيلول 2001، تنبأتْ سيِّدة أثقُ برؤاها بأنَّ أمريكا ستحمِّل العراق مسؤولية تلك الهجمات وتتخذها ذريعة للهجوم عليه. أساس هذا التوقّع هو سخط الولايات المتحدة من نظام الحكم في العراق واختلاقها الأعذار للتنكيل بالبلد. لقد سارعت دول العالم كافة للتنديد بمرتكبي تلك الجريمة وقدمت التعازي لحكومة الولايات المتحدة. وبدلاً من أن يستثمر العراق تلك الفرصة لتحسين علاقته بالولايات المتحدة والنأي عن مرتكبي الاعتداء، وجهت الحكومة رسالة سخيفة مليئة بالتشفي وصفت فيها ما جرى في  علىٰ أنه انتقام إلٰهي لسوء سلوك أمريكا. طبعاً الدول لا تبني ستراتيجيتها بشكل عاطفي، ولكن أول الحرب كلام. بقي صدام يكابر ولم يُبادر لتحسين العلاقة مع المجتمع الدولي والإقليم إلاّ بعد أن فاتَ الوقت.

رغم مغامرات وحروب صدام المُكَلِّفة، إلا أنّ عجلة البناء والإعمار لم تتوقف طوال فترة حكمه، رغم أنها تباطأت. كما تمكنت الحكومة من تأمين الحصة التموينية كاملة طوال فترة الحصار رغم محدودية الموارد. والشيء الذي يُذكر لصدام حسين هو مقته للرشوة والمرتشين، لذلك كان يُوقع أقسى العقوبات بمن تثبت عليه تعاطي الرشوة، خاصة المسؤولين الكبار.

نوري المالكي

لا يمكن مقارنة عراق تموز 1979، بعراق أيار 2006 (تاريخ تبوأ المالكي منصب رئيس وزراء العراق)، فبعد 2003 استحالَ العراقُ إلى أرض يباب، والبلدُ مُحتَلٌ ومُستباح والحرب الأهلية المذهبية مستعرة. لكن تجوز مقارنة عراق آب 1988 [= تاريخ انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية]، الذي أضاعه صدّام، بعراق 2008 [= انتهاء الحرب المذهبية واستتباب الأمن في كافة أنحاء العراق]، فقد كان ممكناً أن يُشكّلَ هذان التأريخان بداية لانطلاقة جديدة. إلاّ أنَّ نوري المالكي، كسابقه [= صدام حسين]، فشلَ فشلاً ذريعاً في اقتناص تلك الفرصة التاريخية الثمينة للانطلاق بالعراق نحو مستقبل آمِنٍ ومُشْرق رغم توفر كل الظروف الموضوعية لذلك.

اتصّفَ عهد نوري المالكي  بالعجز والفشل. فقد عجز عن تحقيق أي خرق في المشاكل الأساسية التي يعاني منها العراق، كضعف الأمن وتضاؤل سلطة الدولة والكِباش السياسي وتردّي الخدمات إضافة إلى النقص الحاد في توليد الطاقة الكهربائية الذي أدى إلى توقّف عجلة الصناعة العراقية بسبب ارتفاع كلف التشغيل (الطاقة تأتي في مقدمتها) ومنافسة المُنْتَج الاجنبي لمثيله العراقي. لقد نكّلت الحكومة بالمُصَنِّع العراقي مرّتيْن؛ أولاً حين امتنعت عن دعمه لتجاوز تكاليف انتاج أو شراء الطاقة المرتفعة، وثانياً حين تقاعست عن حماية المنتَج المحلي من منافسة المنتَج الأجنبي. لقد تسببت هذه السياسة اللامسؤولة بتضرر مداخيل عدة ملايين من العراقيين. إنّ الذي جرى على الصناعة، جرى على القطاع الزراعي، وصار العراق يستورد كل شيء ومن كافة أصقاع العالم، من جنوب أفريقيا إلى كوريا فاليونان.

بررت حكومة المالكي موقفها هذا بأن العراق سوق مفتوحة، البقاء فيه للأقوى والأكفأ. وهذا منطق ظالم ومرفوض اقتصادياً، فحتّى الدول صاحبة أقوى الاقتصادات، تؤمِّن الدعم والحماية لصناعاتها المحلية للحفاظ على ديمومة فرص العمل ونموّها بما يؤمّنُ فرص العملِ للأجيال الصاعدة. لم تتقاعس حكومة المالكي عن دعم قطاعيْ الصناعة والزراعة، لكن الدعم لم يذهب إلى من يستحقه فعلاً. كما لم تفرض رقابة حقيقية وسياسة عقاب وثواب على الذين تحصلوا على ذلك الدعم.

واصطبغ عهد المالكي بتفشي ظاهرة الرشوة. إنّ الرشوة وضعف الأداء الحكومي ليسا طارئيْن على العمل الحكومي في العراق، بل هما صفتان موروثتان من عهد الاحتلال العثماني، ثم سبتا مع تأسيس الدولة العراقية المستقلة، ليُكشِّرا عن أنيابهما من جديد بعد بضع سنوات من اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية كما أسلفنا. واستمر الحال بالتفاقم إلى أن بلغَ ذروته أثناء الحصار الدولي على العراق. إلاّ أن الداء انتشر وتوسع بشكل جارف غير مسبوق بعد نيسان 2003، بحيث أنه شمل كلّ القطاعات. ووصل الأمر إلى حد أن العراقي صار يدفع الرشوة من أجل الذهاب إلى الحج. وهذا مثال كافٍ يبين كيف أن الرشوة صارت وسيلة أساسية يستعينُ بها المواطن لانجاز معاملاته في كل دوائر الدولة. وبالنتيجة امتد الداءُ إلى الوظائف الحكومية التي صارت سلعة تباعُ وتشترى حالها حال بقية السلع، من منصب الوزير إلى أصغر وظيفة، ومن قائد الفرقة إلى الجندي. مَنْ يدفع أكثر يحصل على المنصب الأفضل [1].

أما ضعف الأداء الحكومي فمردّه «وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب». وامتازت الغالبية الساحقة من المسؤوليين المُعينيين (على أساس عرقيٍّ ومذهبي) بضعف الأداء وبـنهم عارم للارتزاق عبر استغلال المنصب لتحقيق مكاسب شخصية وعائلية وحزبية. كل ذلك كان يجري تحت سمع وبصر ورصد المالكي الذي لم يفعل شيئاً لأي من أولئك السرّاق. بهذه الإدارة الرعناء أهدر المالكي فرصة مؤاتية لتغيير اتجاه المؤشر من الهبوط نحو الصعود. أكّدَ المالكي في أكثر من مناسبة بأنه يملك ملفات فساد بحقِّ عدد من كبار مسؤولي الدولة تعهّدَ بكشفها «في الوقت المناسب»، إلاّ أنّه لم يكشف أيٍّ من تلك الملفات. ولم يبرر أسباب نكثه بالعهد.

ومع الانسحاب الأمريكي في كانون الأول 2011، أجّجَ نوري المالكي  الاشتباك الشيعي - السُنّي (المحتدم منذ لحظة سقوط بغداد) حين اتخذ نوري المالكي قرارا استراتيجيا بكسر شوكة السُنّة الى الأبد، فعاد من واشنطن كالثور الهائج  ليُطيحَ تباعاً بالعديد من الوجوه السُنّية المُشاركة بالسلطة مبتدئا بطارق الهاشمي ثم صالح المطلك ورافع العيساوي، ولم يتوقف الا بالنائب احمد العلواني الذي شكل اعتقاله بداية الرد المسلح على تعسف الدولة تجاه العرب السُنّة. فأمسى السُنّةُ بلا قيادة، الأمر الذي سهَّل على التكفيريين ملء هذا الفراغ والسيطرة على إرادة ملايين الأفراد.

هل يعني هذا ان شركاءه السُنّة كانوا ملائكة ولمـّا استفزهم المالكي تحولوا الى شياطين، الجواب بالتأكيد لا، ولكن الرئيس نوري المالكي، الآمر الناهي في العراق بموجب الصلاحيات التي منحه إياها الدستور، هو المسؤول الأول عن كل ما جرى لعدم تقديره لأهمية الوحدة الوطنية في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ البلد. لقد عجز عن ترتيب الأولويات وتملّكه وسواس المؤامرة الذي استحوذ على كامل وعيه وإدراكه وسلوكه. ولم يرتقِ إلى متطلبات منصبه كرئيس لكل العراق المُنْقَسِم أفقياً وعمودياً. بالتوازي مع ذلك ترسَّخَ سوء الأداء الحكومي والفساد المالي من الرأس إلى القدم، الأمرُ الذي تسبب بالمزيد من تبديد ثروة البلد.

إنّ قادة الحرب الأهلية ليسوا ملائكة أو مناضلون مسالمون من نوع المهاتما غاندي، بل هم قادة لأجنحة عسكرية كانت تتقاتل فيما بينها. والصُّلْحُ يعقدُ بين المتحاربين، لذلك ليس لأحد أن يحاكم أحداً على ما ارتكب أثناء الحرب الأهلية. أقرب مثال على ذلك لبنان، فزعماء الطوائف والمليشيات المتحاربة أيام حربهم الأهلية هم أنفسهم الذين يحكمون لبنان حتى هذه الساعة. كما تصالحت إسرائيل مع منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة بالراحل ياسر عرفات رغم أنها كانت تعتبره عدو إسرائيل رقم واحد.

بقي نوري المالكي يتبجح بمسك الأمن وإعادة بناء القوات المسلحة العراقية وامتداد سلطة الدولة إلى كافة انحاء العراق. لكنّ واقع الحال كان عكس ذلك تماماً، فمحافظةُ نينوى يحكمها «تنظيم القاعدة» ليلاً وتحكمها الدولة – شكلاً - نهاراً، وصار أبناء الموصل يدفعون الأتاوات جهاراً نهاراً لوكلاء التنظيم والتنظيمات المسلحة المتعاونة معه على مرأى ومسمع القوات الحكومية. كما يسيطر أتباع التنظيم على كامل صحراء الأنبار والمدن المحاذية لها. أما بقية المدن العراقية، وفي مقدمتها بغداد، فحَوَّلها الإرهابيون إلى ميادين قتال يفجّرونها متى يشاؤون. والدولة لا تفعل شيئاً سوى إضافة المزيد من التحصينات على معاقلها لجعلها منيعة على الإرهابيين. أما المدنيون فمستباحون بالكامل.

في 21 تموز 2013،نَفَّذَ تنظيم القاعدة والتنظيمات المتجحفلة معه مجموعة هجمات ناجحة بلغت ذروتها في غزوة «قهــر الطواغيت» ، عبر اقتحام سجن «أبو غريب» وتحرير أكثر من 1100 مقاتل من مقاتليه الأشدّاء المُدانين ونقلهم إلى أماكن آمنة لينتقلوا بعد ذلك إلى سوريا. إنّ غزوة «قهر الطواغيت» ليست كبقية «الغزوات»، فهي عملية نوعية تؤشر تخطيطا عالي المستوى من قبل «القاعدة»، وفضحتْ ضعف التنسيق بين الأجهزة الامنية العراقية وتراخيها [2].

وأصدر تنظيم «القاعدة»  العراقي، في 23 تموز 2013، بياناً تبَنّى فيه العملية وأطلق عليها غزوة «قهــر الطواغيت». وجاء في البيان ان «كتائب المجاهدين انطلقت بعد التهيئة والتخطيط منذ أشهر، مستهدفة اثنين من أكبر سجون الحكومة استجابة لنداء الشيخ المجاهد «أبو بكر البغدادي» في أن تختم خطـّة «هدم الأسوار» المباركة التي بدأت قبل عام من اليوم بغزوة نوعيّة تقهر الطواغيت المرتدّين وتكسر القيود وتحرّر الأسود الرابضة في غياهب السجون». وتمّ «تحرير المئات من أسرى المسلمين بينهم ما يزيد على 500 مجاهد من خيرة من ولدتهم الارحام، وممّن عركتهم الحروب وصقلتهم سوح النِّزال ولم تزدهم محنة الأسرِ إلا صبراً وثباتاً وشوقاً للجهاد في سبيل الله والنكاية في أعدائه، وقد تم سحبهم وإخلاؤهم لأماكن آمنة دون العدو والوصول إليها أهوال ومصائب». وشكّل هؤلاء المقاتلون الذين تحدث عنهم البيان، القوّة الضاربة الأساسية التي غزا بها «داعش» أكثر من ثلث العراق في حزيران 2014.

وسقطَ ادّعاء الأمن الممسوك الذي كان المالكي يتبجح به مع سقوط الفلوجة في كانون الثاني 2014، أكبر الأقضية العراقية، التي تبعد عن بغداد ستين كيلومترا فقط، بِيَد تنظيم «داعش»، لتتبعها، بعد أقل من خمسة أشهُر، خمس محافظات عراقية، كلياً أو جزئياً، تشكل مساحتها أكثر من ثلث مساحة العراق. ليخرج المالكي على الجماهير ويعلن إن ما جرى كان مؤامرة، وهي فعلاً مؤامرة مكتملة الأركان، دون ان يُبيِّن أين كانت أجهزته الأمنية من تلك المؤامرة. ومن السذاجة انتظار ردٍّ منطقي على هذا التساؤل.

أحاطتْ بنوري المالكي بِطانة انتهازية فاسدة فاشلة من القادة العسكريين شبيهة بالبطانة التي أحاطت بصدام حسين أثناء حروبه مع أمريكا التي لم تُسمعْهُ سوى ما أحبَّ سماعه وأقنعته بأنّ الراعي العراقي سيسقط طائرة الشبح الأمريكية وأن الجيش العراقي سيهزم الجيشيْن الأمريكي والبريطاني مجتمعيْن. كذلك الحال مع المالكي الذي صَدَّقَ أكاذيب ضباطه وقادته الفاسدين الذين اقنعوه بأنّ الوضع تحت السيطرة حتى وهُم في طريق الهروب من الموصل.

لقد أمدّني صديقي المذكور بمعلومات مُفَصّلة غاية في الأهمية ساعدتني في فهم الدوريْن المحلي والإقليمي اللذيْن أسهما في إقامة دولة «داعش»، دون أن ننسى تخاذل وخيانة كبار ضباط وقادة القوات المسلحة العراقية. ومن المهم أن أذكر بأنّ هجوم «داعش» وأخواته ما كانَ مفاجئاً، فالقوات الحكومية كانت مُسْتنفرة وعلى معرفة تامة بتوقيته. ولكن توفر المعلومة الاستخبارية وقلة عدد المهاجمين مقارنة بعدد القوات الحكومية الموجودة في نينوى وصلاح الدين لم يساعدا في شيء.

ورغم الهزيمة النكراء، لم يستقل نوري المالكي من منصبه، بل أصرّ على تكليفه لتشكيل حكومة جديدة  مستنداً على نتائج انتخابات 30 نيسان 2014 التي اسفرت عن فوز كتلته بأكبر عدد من المقاعد (95 مقعدا نيابيا). ولم يتراجع  عن ذلك إلاّ بضغط حازم وساحق من السفارة الأمريكية في بغداد. فاضطر لسحب ترشيحه وأصدر بياناً أعلن فيه سحب ترشِّحه للمنصب. لم تقتنع «السفارة» بالبيان الرسمي، لذلك طُلِبَ منه الظهور علناً أمام وسائل الإعلام. وفعلَ بالضبط ما طُلِبَ مِنْهُ.

قبل ذلك طالبَ السيد علي السيستاني جِهاراً بأن يسحب المالكي ترشيحه للمنصب المذكور، إلا أن المالكي أبى الانصياع لطلب السيستاني وصرنا نسمع أصواتاً (من أنصار المالكي) يستنكرون «تدخّل السيستاني في شؤون العراق السياسية وأن المرجع ينبغي أن يشغل نفسه بالشؤون الدينية فحسب». لذلك كان تدخل السفارة في محلّه.

غادر نوري المالكي منصب رئيس الوزراء بنفس حصيلة صدام حسين: ملايين إضافية من الضحايا والأيتام والأرامل وفقر وهزيمة واحتلال وخراب وخزينة خاوية لا تسد رمق العراقيين ولا تكفي لإعادة بناء الجيش وتسليحه لاستعادة الأرض السليبة وتحرير الجماهير القابعة تحت نير احتلال «داعش».

لم يُحاسَب أي من المسؤولين السياسيين أو القادة العسكريين على استيلاء «داعش» على أكثر من ثلث مساحة العراق وعلى آلاف الضحايا الذين قُتِلوا بدم بارد في نينوى وصلاح الدين. أما نوري المالكي، فعُوقِبَ بتوليته منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية.

لم يقفز حزب الدعوة ونوري المالكي إلى السلطة بانقلاب عسكري، بل عبر انتخابات جماهيرية جرت منذ 2005. لكن «الحصول على ملايين الأصوات التي توافق أن 2+2 تساوي خمسة لا يجعل المعادلة صحيحة» كما يقول فيكتور هوغو في ديوانه «نابليون الصغير» [3]. يملك هوغو كل الحقِّ في ما ذهب إليه، فحصيلة المالكي [الديمقراطي] أسوأ بكثير ممن أتوا عبر الانقلابات والمؤامرات. وهذا ديدنُ العراق منذ أمد بعيد، على الأقل خلال السِتّين سنة الماضية، بالانتقال من سيء إلى أسوأ. ورغم ظلم حكامنا، الراحلين والأحياء، وفشلهم وضحالة أدائهم، فإنّ لكل واحد منهم جمهور عريض يتجاوز الملايين.

حين يُسْأَلُ المالكي عن أهم منجزاته، يذكُرُ أمرين لا ثالث لهما؛ تنفيذ حكم الاعدام بصدام حسين وإنهاء الوجود الأمريكي (العسكري) في العراق. لقد تسبب قراره الأخير بأن ترك الأمريكان العراق دون قوة جوية ووسائل رصد ودفاع جوي وقوة بحرية وأجهزة استخبارات. قادرة على مواجهة قوى التمرد والإرهاب المتربصة بالبلد. وبمجرد مغادرة الأمريكان، سقطت أجزاء مهمة من صحراء الأنبار بأيدي تنظيم القاعدة الذي تحوّلَ إلى «داعش». ثم استولى تدريجياً على قرى وبلدات وأحياء داخل المدن الكبيرة.

كان يمكن تقليل عواقب الإنهاء المُرْتَجَل للوجود الأمريكي لو أن المالكي جعل منه مناسبة لجمع أبناء الشعب وتوحيده. لكنّه فعل العكس تماماً كما أسلفنا. و«إذا كان الاحتلال الأمريكي استدعى تنظيم القاعدة للعراق، فإنَّ الانسحاب الأمريكي غير المدروس الذي تسبب به المالكي استدعى داعش إلى أرض العراق».

إنّ حصيلة حكم نوري المالكي، مثلها مثل سنوات صدام، مُرّةٌ بطعم العلقم، بل هي أقسى وأشد مرارة وهَوْلاً من سنوات الأخير. يقول يفغيني زامياتين [4] في كتابه «نحن»: «جَرِّبْ فقط أن تعطي قرداً كتاباً وسترى كيف سيفسده على الفور، وكيف سيمزّقه إرباً».

الهوامش:
[1] فساد الموظفين الصغار – احمد هاشم الحبوبي

[2] غزوة «قهــر الطواغيت»..خاتمة خطة «هدم الاسوار» - احمد هاشم الحبوبي

[3] «مأساة السادات ملهاة مرسي: تشريح مختصر لرئيس إخواني». يوسف دعنا. صحيفة الأخبار اللبنانية، 28 حزيران 2013.

[4] يفغيني ايفانوفيتش زامياتين (1884 - 1937): صحفي وروائي روسي اشتهر بروايات الخيال العلمي والنقد السياسي. ومن أبرز أعماله رواية "نحن" (1921) التي تدور أحداثها في المستقبل في دولة بوليسية فاسدة. وقد حظرت هيئة الرقابة السوفيتية الرواية، الأمر الذي اضطره لتهريب الرواية لنشرها في الغرب [المصدر: ويكيبيديا).

صدام حسين ومسعود برزاني .. من خلّف ما مات

المقدمة حين يدور حديث أو مقال يدور عن «أبو علي الشيباني» [ 1 ] عادة ما يبادر أحدهم بالاعتراض مستنكرا: ليش [= لماذا] لا تتحدث عن «أبو ثقب...