احمد هاشم الحبوبي |
وُلد البوطي عام (1929) على ضفاف نهر دجلة في تركيا، عند نقطة التلاقي بين
حدود سوريا والعراق وتركيا، في مدينة «جيلكا» التابعة لجزيرة ابن عمر المعروفة
بجزيرة «بوطان». ونال شهادة الدكتوراه في اصول الشريعة الاسلامية من جامعة الازهر
في العام (1965). ويتحدث البوطي اللغات العربية والكردية والتركية بطلاقة، إضافة
إلى الانكليزية. وهو «علاّمة الشام»، و«رأس شيوخ الدين فيها، فالرجل بتاريخه المديد،
وتنوع أدواته العلمية، جلس فوق قمة الهرم الديني والعلمي في سوريا».
كما خاض البوطي معارك شهيرة مع الداعية السلفي السوري محمد ناصر الدين الألباني.
وكتب البوطي في هذا المجال كتاب «اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية»، وكتاب
«السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي». ودخل، في عقود سابقة، في سجالات فقهية مع الجماعات
الدينية المسلحة، تحت عنوان «الجهاد»، وكان ذلك على خلفية مواجهات «الإخوان» مع نظام
الأسد الأب، وألـّفَ في هذا الشأن كتابه الشهير «الجهاد في الإسلام» سنة 1993.
وبذلك فإن خصومة البوطي مع السلفيين قديمة وأصيلة.
وحين اندلعت الأزمة في سوريا، رفض البوطي اعتبار ما يجري في سوريا ثورة. وناصَرَ
الدولة «في حربها على الإرهاب والجهل». وقبل خمسة ايام من اغتياله، وصف الثورة
السورية بـ«الحرب العالمية التي يستخدم لها إخوة، بل تستخدم لها أقاليم من شتى
الأطراف، ويستخدم لها جيوش من الأخلاط والأمشاج المرتزقة الذين صنعتهم أميركا
والذين يُسَمّون «القاعدة» وذيولها، ويستقدم لها أطنان الأسلحة وتقذف من شتى
الأنحاء إلى سوريا التي وصفها رسول الله بأنها قلب في داخل الشام».
لم يكن للبوطي أي حراس شخصيين. وكان بإمكان القاتل ان يغتاله وهو في طريقه
إلى المسجد ببضعة اطلاقات أو بنفس الحزام الناسف، مما كان سيقلل عدد الضحايا من
القتلى والجرحى. إلا ان قاتليه ارادوا له موتا مدويا يشفي غِلـّهم ويملأ وقعه
الافاق ويدمي قلوب محبيه ومريديه، وهم كثر. وقد نجحوا في ذلك أيما نجاح.
ان منفذي اغتيال البوطي استحضروا كل خبراتهم التي اكتسبوها من حرب العراق،
وطبقوها في سوريا؛ فقد زرعوا عبوة ناسفة في حوض زراعي عند باب جامع الإيمان
معدّة للتفجير أيضاً، وسط استنتاجات عن استهدافها للشيخ البوطي، فيما لو فشلت
عملية الاغتيال بواسطة الانتحاري. وهذا تكنيك روتيني نفذه تنظيم القاعدة في العراق
وأفغانستان أيضا.
أدان رئيس الائتلاف السوري المعارض [انذاك] احمد معاذ الخطيب اغتيال البوطي،
واصفاً الاعتداء بأنه «جريمة بكل المقاييس». وقال «نحن ندين بشكل كامل قتل العلامة
(محمد) سعيد رمضان البوطي ونقول ان ديننا وأخلاقنا لا تسمح أبداً أن نتعامل مع
الاختلاف الفكري بطريقة القتل»، مؤكداً أن «هذه جريمة بكل المقاييس وهي مرفوضة
تماماً».
كما ادان مفتي سوريا «أحمد بدر الدين حسون» عملية الاغتيال ووجّه رسالة إلى
قتلة البوطي قائلاً: «إني بانتظاركم»، لافتاً إلى أن البوطي هو شهيد الوطن والمسجد
والمحراب. ولفت إلى أن كل من يسكت من العلماء المسلمين في العالم بدءاً من الأزهر
وصولاً إلى اتحاد علماء المسلمين وغيرهم على جريمة اغتيال الشيخ البوطي، إنما
يشارك في اغتيال كل شهداء سوريا. كما أصرّ حسون على موقفه قائلاً: «إننا لا نقف مع
نظام إنما مع وطن فتحت عليه حروب العالم».
وأبى تكفيريو السعودية ان يفوتوا مقتل خصم قديم وقدير كالبوطي دون ان اظهار
التشفّي والحبور، حيث بارك رجل دين يدعى عبد الرحمن السديس، [وهو ليس خطيب المسجد
الحرام في مكة]، اغتيال البوطي واصفاً إيّاه بأنه «مجاهد في سبيل الشيطان بلسانه
وبيانه. عاش عمره خادما للدولة النصيرية الملحدة، منافحا عنها في عهد الطاغية
الهالك حافظ الأسد، وفي عهد الطاغية بشار. ولما قام الشعب بهذه الثورة، كان أعظم
شيخ ناصَرَ بشاراً وسانده وحث جيش النصيري على إبادة المسلمين، وعدهم مجاهدين،
وأنهم قريبون من منزلة الصحابة، وأما المجاهدون فوصفهم بأقبح الأوصاف». وعدَّ
البوطي شريكا في قتل ألوف المسلمين «بتحريضه على قتلهم وتزيين ذلك، وعده عملا
صالحا وجهادا في سبيل الله. ومن كان بهذه المثابة فهو من أئمة الضلال، الذين يخف
الضلال والشر بموتهم، وهذا مما يستبشر به كل مؤمن ويفرح».
وقد نفى «الجيش الحر» أي دور له في العملية. وأعلنت قيادته المشتركة ان مثل
هذه الأعمال «لا تمتّ بأي صلة لأخلاق ومبادئ وأهداف الثورة السورية المجيدة والجيش
الحر»، وحذرت في بيان من أن «هذه الأعمال الإرهابية والإجرامية هي بداية لمرحلة
خطيرة للغاية لخلط الأوراق تخوضها قوى إقليمية طالما استعملت ورقة الإرهاب لتحقيق
غايات سياسية ومحاولات رخيصة لتبرير دخول مقاتلين من دول الجوار والإقليم بحجة
حماية بعض المقامات والمزارات».
ونفى تنظيم «جبهة النصرة» أي دور له
في الانفجار. وقال محمد الشلبي، القيادي البارز في التيار السلفي الاردني، والقريب
من «النصرة» في حديث لوكالة «يونايتد برس إنترناشونال»: «إن جبهة النصرة لأهل الشام
كانت تتمنى قتل عالم أمن الدولة السوري محمد البوطي، ولكننا ندين الطريقة التي قـُتل
فيها بداخل مسجد، والأبرياء الذين سقطوا جراء ذلك». لقد تضمن نفي «الشلبي» الكثير
من التشفي والسرور بمقتل البوطي.
إلا ان هذا الإنكار لم يصمد طويلا، ففي 19 كانون الاول 2013، تمكنت اجهزة
الأمن السورية من القاء القبض على مجموعة على صلة بـ«النصرة» اعترفوا بمسؤوليتهم
عن التفجير الذي أودى بحياة الشيخ البوطي.
وأفاد قائد المجموعة إبراهيم محمد عباس، وهو عراقي الجنسية، أنـّه «بعد أن
انتقد الشيخ البوطي عمليات «جبهة النصرة»، جاءنا الأمر الأساسي من «أبو سمير
الأردني»، مستندا على فتوى من «أبو خديجة الأردني»، المسؤول الشرعي العام للتنظيم».
وجاء في الاعترافات ان التنظيم «لم يتبن عملية اغتيال الشيخ البوطي لأنها لم
تلق قبول الشعب السوري، وذلك لأن من تم قتله هو شيخ وإن التفجير كان في المسجد
وذهب ضحيته الكثير من المصلين».
بعد اقل من عشرة ايام على اغتيال الشيخ البوطي، وبالتحديد ليل الجمعة /
السبت 30 آذار 2013، اقدم مقاتلو الكتائب الإسلامية المسلحة في حلب على قتل إمام
جامع الحسن، الشيخ (السُنّي) حسن سيف الدين، ذبحاً، ثم علقوا رأسه على مئذنة
المسجد وسحلوا جثته بسبب موالاته للنظام السوري.
بات للتكفيريين العراقيين باعا طويلا ومشهودا في اغتيال الشيوخ والأئمة
وتفجير الجوامع، حيث اغتيل أكثر من مائتين وخمسين رجل دين في محافظة الانبار
العراقية وحدها. أما الجوامع التي استـُهْدِفَت بالانتحاريين والعبوات الناسفة،
فهي بالمئات، ولم يتوقف العداد بعد.
لقد حقق التكفيريون الحلم العربي على طريقتهم؛ تكفيري أردني يفتي بالقتل،
فينبري عراقيٌ لتنفيذ الفتوى ويقتل سورياً في دمشق..عاشت الأمـّة العربية!..