تفاقم الاشتباك المذهبي في الشرق الأوسط مع اندلاع
«الأزمة السورية». وصار المذهب فوق كلّ اعتبار، حتى فوق الدِّينِ نفسه.
مع المتطوعين الذائدين عن حِمى المذهب، تطوّع بضعة
آلافٍ من فلسطينيي 1948 ومخيمات لبنان وسوريا والأردن في صفوف تنظيميْ «جبهة
النصرة» و«الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) لمحاربة «الجيش العربي
السوري» الذي تحول بين ليلة وضحاها إلى عدوٍ مبين.
كما غادرت منظمة «حماس» بهدوء «جبهة الممانعة» أو «محور
المقاومة» وعادت إلى احضان أبيها وأمها؛ «الإخوان المسلمين». ليبقى الجزء الشيعي
من المحور وحيدا، كما بدأ، دون رتوش سُنـِّية، ليبرز كـ«محور شيعي» أو «هلال شيعي».
لقد انقلب الإسلاميون الفلسطينيون على البيئة التي
عاشوا فيها متصالحين ومتصاهرين لعقود طويلة، سواء في سوريا أو لبنان.
اصطفَّ إسلاميو مخيم اليرموك الفلسطيني في دمشق إلى
جانب المعارضة السورية المسلحة منذ منتصف سنة 2011، وصار المخيم مأوى للعديد من
الجماعات التكفيرية المسلحة، ابرزها كتائب «اكناف بيت المقدس التي تألفت من أعضاء
في حركة حماس، تقول قيادة الحركة إنهم صاروا خارج بنيتها التنظيمية، لكنها لا تُدين
ما يقومون به. وأظهرت المعطيات الموجودة لدى حزب الله في منطقة القصير مثلاً،
ومناطق أخرى من سوريا، أن الأنفاق التي استخدمها المسلحون، إنما نفذت على طريقة
كان الحزب قد درّب حركة حماس عليها في مراحل التعاون المشترك لتهريب السلاح الى
قطاع غزة، أو وضع الخطط العسكرية لمواجهة الاعتداءات الاسرائيلية على القطاع» [1].
ومنذ التاسع من تموز 2013، يتعرض لبنان لاعتداءات
ارهابية نفذها الثلاثي التكفيري: «كتائب عبد الله عزام» و«النصرة» و«داعش»، طالت
المدنيين في المناطق ذات الغالبية الشيعية سعيا لإرباك «حزب الله». وكانت اعتداءات
«كتائب عبد الله عزام» هي الأشد إيلاما، حيث اوقعت عشرات القتلى ومئات الجرحى. وانتهت
التحقيقات الأمنية اللبنانية إلى ان فلسطيني أو أكثر كان يقف وراء كل من تلك
التفجيرات، تخطيطا وتنفيذا وإفتاء وانتحارا.
مع ارتفاع وتيرة تلك الاعتداءات وازدياد وطأتها، لم
يعد السكوت ممكنا، فاستنكرت وسائل الإعلام اللبنانية الدور التدميري لإسلاميي
المخيمات. ونشرت قائمة بأسماء الخطرين والفاعلين منهم، كتوفيق طه والشيخ بهاء
الدين الحجير وزياد ابو النعاج وهيثم مصطفى ونعيم عباس [2]، جميعهم أما مرتبطون أو
متعاونون مع تنظيم «كتائب عبد الله عزام».
وتمكنت مخابرات الجيش اللبناني من القاء القبض على
نعيم عباس (وصفته الصحافة اللبنانية بكنز المعلومات) الذي كان بمعيته انتحاري
وسيارة مفخخة بمائة كيلوغرام من المواد الشديدة الانفجار كان يعتزم تفجيرها في
الضاحية الجنوبية. كما افضت اعترافاته إلى ان تضع قوات الأمن يدها على مركبة مفخخة
أخرى ومخزن للأسلحة يحتوي أحزمة ناسفة ومتفجرات ومعدات لتزوير بطاقات هوية
ومستندات وأختام، إضافة الى صواريخ كاتيوشا وغراد، أعِدَّ بعض منها لقصف الضاحية
الجنوبية.
إنّ بلدة البيسارية، التي ارتكب اثنين من ابنائها
الفلسطينيين اعتداءين انتحاريين في الضاحية الجنوبية ببيروت، هي مثال صارخ على
بداية تصدع التعايش الفلسطيني ـ اللبناني. تقع المدينة في جنوب لبنان (55 كم عن
بيروت)، اغلب سكانها شيعة، يعيش بين اكنافهم ثمانون عائلة فلسطينية منذ عاميْ 1948
و1967. وحين كشفت التحقيقات ان أحد الانتحارييْن اللذان نفذا اعتداء السفارة
الإيرانية في الضاحية الجنوبية في 19 تشرين الثاني (25 قتيلا وحوالي 150 جريحا) هو
الفلسطيني "عدنان المحمد" الذي ينحدر من البيسارية، تمكن مختار البلدة
من ثني أبناء البلدة الغاضبين عن مهاجمة منزل الانتحاري المذكور.
وبعد ذلك بثلاثة أشهر بالتمام والكمال، استُهدِفَت
المستشارية الثقافية الإيرانية في الضاحية الجنوبية باعتداء انتحاري مزدوج (11
قتيلا وحوالي 130 جريحا) كان أحد منفذّيه الفلسطيني "نضال هشام المغير"
الذي ينحدر من بلدة البيسارية أيضا. عندها طفح الكيل بشباب البيسارية، ولم يفلح
مختارها في ثني ابنائها عن إحراق منزل عائلة نضال وسيارة ابيه. وذكرت صحيفة الشرق
الأوسط السعودية عن أحد سكان البلدة إلى أن السكان «حاولوا توجيه رسائل رادعة
لعائلات الفلسطينيين الذين يعتقد أن نحو عشرة من أبنائهم، كانوا مقربين من (الشيخ
المتشدد) أحمد الأسير».
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد تجمع مجموعة من شبان
البيسارية وجوارها في 23 شباط 2014 «استنكاراً للفكر التكفيري وتعبيراً عن رفض
وجود العائلات الداعمة له». ثم أحرقوا سيارة (رجل الدين) أحمد خلف، وتجمعوا أمام
داره، مطلقين شعارات مذهبية وضد بعض الفلسطينيين. والسبب أنه «شيخ متشدد والمرشد
الروحي (للانتحاريين) نضال المغير وعدنان المحمد» [3].
لم تفلح عقود من العيش المشترك بين فلسطينيي البيسارية
وشيعتها، بما تخللتها من فعاليات اجتماعية واقتصادية لا حصر لها، في ان يشبّ "نضال
المغير" و"عدنان المحمد" على حبّ الآخر الذي يشاركهما الأرض والماء
والهواء والحلوة والمُرّة والقـِبلة والحلم.
إنّ الاصطفاف المذهبي للمتشددين الفلسطينيين يحوّل
الوجود الفلسطيني برمته إلى عامل مهدد للتوازن المذهبي اللبناني القلق اصلا.
وسيتضاعف التهديد بالتأكيد إذا اضيف اللاجئين السوريين المقيمين في لبنان.
لا يرفع «حزب الله» سلاحه بوجه فصيل فلسطيني، بل بوجه
إسرائيل ثم التكفيريين. حتى حرب تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، لم ينظر
إليها سوى أنها معركة في حرب طويلة مع الغاصب الإسرائيلي المتغطرس الذي يقضم الأرض
الفلسطينية ويهضم حقوق وكرامة الفلسطينيين، إخوة الدم والدين، لا «الإخوة السُنّة»،
أو «الإخوة الشيعة»، كما هو متداول اليوم.
كان الشيخ راغب حرب، يكرّر دائماً: «لا تفكروا كيف
سنخرجها من لبنان، بل كيف سنخرجها من فلسطين». وبالنسبة إلى السيد عباس الموسوي،
«الأمة كلّها مدعوة اليوم لإعادة القوة والاحترام للقضية المركزية، وهي قضية
فلسطين، وساعتئذ سنفرض احترامنا على كلّ الأمم» [4].
يرى الكاتب اللبناني سليمان تقي الدين انه «ليس أخطر
من ظاهرة "استخدام العنصر الفلسطيني" اليوم لهدفين، الأول تفجيري في
الساحة اللبنانية والثاني تدميري للشعب الفلسطيني نفسه».
ان ذرائع التشدد الفلسطيني ليست مذهبية مجردة، بل هناك
ازمات عميقة تشمل مجمل الوجود الفلسطيني في لبنان يـُقِرّ بها تقي الدين ويقول: «نعرف
أننا فشلنا في معالجة القضية الفلسطينية وفي إعطاء الفلسطينيين (المقيمين في
لبنان) شروطاً إنسانية وساهمنا في خلق صورة يائسة لدى بعض فئات هذا الشعب. وهذه
مهمة كذلك تجب معالجتها، مثلما تجب معالجة دوائر الفقر والحرمان والتهميش في
الكثير من مناطق لبنان، لكنّ ثمة خطراً داهماً يستدعي خطة وطنية تحدّد مصادر
التهديد من السياسة إلى الأمن وتوحيد الإرادة في مواجهتها» [5].
أسوة بالمدنيين السوريين، تضرر المدنيون الفلسطينيون
أيضا من جراء المعارك العنيفة الدائرة التي تستخدم فيها كافة الأسلحة المتاحة لدى
طرفي النزاع، فنالهم القتل والجرح والجوع والتشرد ومن ثم لجوء اللجوء. وقال احمد
مجدلاني، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وموفدها إلى سوريا،
إن«مخيمات اللجوء الفلسطيني في سوريا تتعرض لنكبة جديدة، حيث بقي في مخيم درعا
للاجئين [500] لاجئ من أصل [20 ألف] لاجئ شردوا خارجه، إضافة إلى تشريد جميع سكان
مخيم السبينة وكانوا نحو [60 ألف] لاجئ، ويعيش داخل مخيم اليرموك الآن نحو [20 ألف]
لاجئ من أصل [160 ألف]، وثلثي سكان المخيمات الأخرى». وأردف: «الهدف من هذا كله هو
توريط وزج الفلسطينيين في الأزمة السورية».
أما اسرائيل، وارثة غيمة هارون الرشيد، بل أمته، فهي
لا تكاد تلحق قطف ثمار انهيار الدول العربية التي يعيد ابناؤها ترتيب انتماءاتهم
بما يفضي الى تأسيس كيانات بديلة على أساس عرقي وديني ومذهبي، الأمر الذي يوفر
اقوى الذرائع لإسرائيل كي تنتزع اعتراف العالم كله بيهودية الدولة.
كما تخوض إسرائيل حملة علاقات عامة لتعزيز علاقاتها مع
كل الانظمة العربية، دون استثناء، فوزير الطاقة الإسرائيلي "سيلفان شالوم"
توجه إلى أبو ظبي للمشاركة في مؤتمر حول الطاقة، ووزيرة العدل "تسيبي
لفني" يثني عليها رئيس المخابرات السعودية السابق تركي الفيصل. ووزير زراعة
إقليم كردستان شمال العراق يزور إسرائيل تمهيدا لإنشاء محطة تربية ابقار ومعمل
البان يؤمل ان تصل منتجاته إلى بغداد والمحافظات الجنوبية.
لا يقصد من ذلك الإيحاء بأن العرب كانوا جميعهم
"ممانعين" يرفضون التطبيع مع إسرائيل، بل هو أمر جار منذ زمن، لكن على استحياء.
أما الآن، فالتطبيع صار هوس يرنو إليه العرب ومَنْ والاهم، من المحيط إلى الخليج.
وطبّعَت إسرائيل جماهيريا من جانب واحد مع سوريا، حيث
عالجت [700] جريح سوري في مستشفياتها خلال سنة واحدة، الأمر الذي سيسهم حتما في
تحسين النظرة نحو إسرائيل، فمن يداوي الجراح ويخفف الأوجاع ليس كمن يقصف ويفجّر
ويقنص. اثناء هذا التطبيع، اجهزت إسرائيل على مجمل أسلحة «الجيش العربي السوري» الستراتيجية
التي لم تستنزفها «الأزمة السورية».
على المقلب الآخر، ينقل الصحفي اللبناني محمد نزال،
القريب جدا من نبض الشارع اللبناني، هواجس مواطن من سكان الضاحية الجنوبية تجاه
الاعتداءات الارهابية: «اعتدنا الأمر أو بدأنا نعتاده. ما حصل في العدوان
الإسرائيلي عام 2006 لم يكن سهلاً، ولكن يؤسفني القول إن الإسرائيلي كان عدواً
محترماً، قياساً بهؤلاء التكفيريين، إذ كانت الطائرات ترمي المناشير وكنا عموماً
نعرف أننا في حرب. لكن ما يحصل اليوم غير مفهوم تماماً، إذ تشعر أنهم يغدرون بك،
في أي لحظة يمكن أن يدوي الانفجار بلا سابق إنذار» [6]. مرة أخرى نجد انفسنا في
مقارنة تسفر عن انتصار الإسرائيلي على الشريك في الوطن والقومية والدين.
وتستفيد إسرائيل من انشغال العرب بحربهم المذهبية
المقدسة وتفشّي آفة التكفير لتبرر تشددها في مفاوضاتها مع الفلسطينيين. يرى الصحفي
الإسرائيلي "غي بخور" في جريدة «يديعوت احرنوت» ان السلفيين من العراق
وسوريا اتحدوا في «كيان ضخم للقاعدة وسيتّحِدون مع سلفيي شمال الاردن والسلطة الفلسطينية
والأمر أمر وقت فقط». ولذلك فهو يحثّ الحكومة الاسرائيلية على رفض الخطة الامريكية
المطروحة في محادثات الحل النهائي مع الفلسطينيين (انسحاب الجيش الإسرائيلي من
الضفة الغربية، ونشر قوات اطلسية بدلا عنه)، وإلا فإن الأمر سينتهي إلى «سيطرة
سلفية سريعة للقاعدة، في بضعة ايام، فوق مطار بن غوريون، الذي هو منفذ اسرائيل وتل
ابيب وحيفا والقدس الوحيد، لتتحول اسرائيل الى «عراق (فاشل) آخر».
كتب غسان شربل، الصحفي في جريدة الحياة: «لنتفق أن ما
كنا نسميها القضية المركزية أي فلسطين لم تعد تحتل الموقع الأول لدى الناس ولم تعد
تستولي على مشاعرهم أو المحرك الأول لسلوكهم. وإن إسرائيل حققت انتصاراً تاريخياً
فاحشاً من دون أن تجازف بدم جندي واحد. كل السلاح المجاور لحدودها يسبح الآن في دم
الحروب الأهلية» [7].
والكارثة ان اولوية فلسطين تراجعت حتى عند الإسلاميين
الفلسطينيين انفسهم، فانغمسوا في الصراع «الشيعي - السُنّي» في سوريا ولبنان، وحتى
«السُنّي ـ السُنّي» في مصر، وصارت منظمة حماس «مشتبه بها في كل الدول العربية
التي احتضنتها سابقا».
بعد الاعتداء الانتحاري الذي استهدف الضاحية الجنوبية في بيروت في 19 شباط
2014، كتب "محمد نزال" على صفحته في «فيسبوك»: «من اليوم فصاعداً سألعن "ر..."
كل من يُردد بعد هذه العبارة: "الإرهاب لا دين له"» [8].
أما عن حصة العراق من المتشددين الفلسطينيين، فكفى بـ«ابو محمد المقدسي» و«ابو
مصعب الزرقاوي» مُفتيا وأميرا، وعدد غير محدد من التابعين الاشدّاء الذين أحالوا
أرض السواد إلى أرض يباب.
المراجع:
[1]
صحيفة الأخبار اللبنانية، إبراهيم
الامين: «اليرموك...مسؤولية فلسطينية»، 13 كانون الثاني 2014.
[2]
صحيفة الاخبار اللبنانية، العدد 2213
في 3 شباط 2014.
[3]
صحيفة الأخبار اللبنانية، آمال خليل: «البيسارية:
خليط متفجر «يصلح» لفتنة!»، 24 شباط 2014.
[4]
صحيفة الأخبار اللبنانية، النصر
الأكيد، العدد 2223 في 15 شباط 2014.
[5]
صحيفة السفير اللبنانية، سليمان تقي
الدين: «الإرهاب يقتل مرتين»، 22 شباط 2014.
[6]
صحيفة الاخبار اللبنانية، محمد نزال: «همس
في الضاحية: نعم نحن خائفون»، 5 شباط 2014.
[7]
صحيفة الحياة السعودية الصادرة في
لندن، غسان شربل: «لانريد العيش معا!»، 30 كانون الاول 2013.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق