طرق اسماعنا كثيرا مصطلح «المقاومة الشريفة» أبان الاحتلال
الأميركي للعراق، و«المعارضة المعتدلة» بعد اندلاع «الأزمة السورية»، حيث استخدم
التعبيران لتمييز الفصائل المسلحة عن التنظيمات التكفيرية المسلحة.
لذلك، وبحجة إضعاف نفوذ التكفيريين؛ لا تجد القوى
الدولية والإقليمية حرجا في تمويل وتسليح المعارضة السورية المعتدلة. موّلَت
الإدارة السعودية صفقة سلاح سرية بدأت فصائل «المعارضة السورية المعتدلة» بتسلمها
في كانون الاول 2012. تضمنت الصفقة أسلحة خفيفة ومتوسطة مضادة للدبابات وبنادق
عديمة الارتداد (تستخدم ضد الدروع والتحصينات). وقد عدّت أول أسلحة ثقيلة تمد بها
القوى الخارجية المعارضة المسلحة. ونـُقِلَت عبر الحدود الأردنية إلى محافظة درعا
السورية.
كشفت صحيفة الشرق الأوسط السعودية في 25 شباط 2013، عبر
خبر نشرته بالتعاون مع صحيفة «واشنطن بوست»عن «تدفق أسلحة ثقيلة عبر الحدود
الأردنية إلى قوى معتدلة في الجيش الحر». وجاء في التحقيق ان الغاية من الصفقة
كان:
1)
مواجهة النفوذ المتنامي للمجموعات المتطرفة في
شمال سوريا، من خلال دعم المجموعات الأكثر اعتدالا.
2)
تحويل تركيز
الحرب بعيدا عن الشمال نحو الجنوب والعاصمة، معقل الحكومة السورية. حيث لم تشكل
معارك الشمال تهديدا حقيقيا للنظام في دمشق.
3)
معالجة
التأثير غير المقصود لمساعي سابقة (في صيف 2012) بتقديم كمّ ضئيل من الأسلحة
والذخيرة إلى قوات الثوار في الشمال، الذي توقف بعدما اتضح أن الجماعات الأصولية
كانت المستفيد الأكبر منها.
4)
تنويع مصادر تسليح «الجيش
الحر» الذي يحصل على اسلحته عبر شرائها من السوق السوداء وتلك التي يغنمها من
مخازن «الجيش العربي السوري».
5)
تعزيز تسليح «الجيش الحر»
من اجل تحقيق انتصار ملموس على الأرض يسهم في كسر الجمود الحاصل على جبهات القتال.
وكذلك في حملة سعودية مضادة «للتسليح الإيراني للنظام (السوري)، والذي يفوق ما يصل
للمعارضين بكثير».
ونقل كاتبا التحقيق الصحفي المذكور عن إليون هيغنز (وهو مدون بريطاني يستخدم
اسم براون موسي يتعقب نشاطات الثوار السوريين)
أن هذه الأسلحة أثّرت على «مسار الحرب، فقد ساهمت في تصعيد القتال في منطقة
درعا خلال العام 2013، حيث تمكن مقاتلو المعارضة من اجتياح القواعد العسكرية
الحكومية، بما في ذلك العديد من نقاط التفتيش على طول الحدود الأردنية؛ الجبهة
الرئيسية التي لطالما تم تجاهلها. وقد مكن هذا، بدوره، الثوار المسلحين بالمعدات
الجديدة من الاستيلاء على الأسلحة والذخيرة الأخرى الموجودة في المنشآت الحكومية
التي تم الاستيلاء عليها، وبسط نفوذهم على الجماعات الصغيرة الأخرى، وبالتالي
محاكاة النموذج الذي شهدناه في شمال سوريا؛ حيث تضخمت سطوة المتطرفين الإسلاميين
بشكل كبير نتيجة تعاظم انتصاراتهم العسكرية، وأضاف: «هذا الأمر أشبه بما حدث مع
الجماعات الجهادية في حلب عندما بدأت في الاستيلاء على كل هذه القواعد والحصول على
أفضل العتاد، يمكنك أن تقول إن درعا باتت نموذجا يحاكي حلب».
كما قلل كاتبا التحقيق من مخاطر انتقال السلاح الكرواتي إلى شمال سوريا
الخاضع تحت سيطرة الفصائل التكفيرية المسلحة، فـ«القتال في تلك المحافظات يعتمد في
المقام الأول على كميات مهولة من الأسلحة التي استولى عليها المتمردون من القوات
الحكومية».
وبيّن كاتبا المقال انه «رغم استمرار رفض إدارة (الرئيس الأميركي باراك) أوباما
تسليح الثوار بشكل مباشر، فإنها قدمت مساعدات استخباراتية للأطراف المشاركة في
الإمداد».
واضح جدا انه لا «الشرق الأوسط» ولا الإدارة السعودية أرادتا إبقاء الصفقة
طي الكتمان. فقد ركزت الصحيفة بزهو على ابراز ايجابيات الصفقة على ساحة المعركة.
وأماطت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية في اليوم
التالي (26 شباط 2013) اللثام عن كلّ ما خفي من الصفقة، فكشفت أن السعودية هي من
موّلـَت عملية الشراء، وأن الأسلحة مصدرها كرواتيا. ونقلت الصحيفة عن مسؤولين امريكيين
وأوروبيين قولهم إن ذلك يأتي في مسعى منها (السعودية) لكسر حال الجمود الدامية التي
أتاحت للرئيس السوري بشار الأسد بالتمسك بالسلطة.
نفت وزارة الخارجية الكرواتية حدوث الصفقة برمّتِها. وقالت
المتحدثة باسم وزارة الخارجية الكرواتية «دانييلا باريسيك» في اتصال هاتفي مع صحيفة
«نيويورك تايمز»، انه منذ بدأ «الربيع العربي»، لم تبع كرواتيا أية أسلحة إلى
السعودية أو الثوار السوريين. فيما رفض مسؤولون سعوديون وأردنيون التعليق على
الموضوع.
وبعد يومين من افتضاح الصفقة؛ أعلن رئيس الوزراء الكرواتي
«زوران ميلانوفيتش»، في 28 شباط 2013، أن زغرب قررت سحب جنودها المشاركين في بعثة
مراقبي الأمم المتحدة في هضبة الجولان السورية المحتلة.
وقال ميلانوفيتش، في اجتماع للحكومة الكرواتية في
زغرب، «بعد لقاء مع الرئيس «ايفو جوسيبوفيتش» أمَرْتُ ببدء عملية سحب القوات
الكرواتية من هضبة الجولان». وأضاف «في الايام الأخيرة نشرت مقالات في بعض الصحف
الجديرة بالاحترام، يمكننا نفيها طالما أردنا لكن من دون جدوى. لم يعد جنودنا في
امان. نريد إعادتهم سالمين الى ديارهم».
ولكن، وبعكس الموقف الكرواتي الرسمي، اكّدَت صحف
كرواتية حصول الصفقة، ففي 09 آذار 2013، نقلت صحيفة «الاخبار» اللبنانية عن صحيفة
«يوتارني ليست» الكرواتية أنّ (75) طائرة نقل مدنية تركية وأردنية، أقلعت خلال
الفترة بين تشرين الثاني الماضي وشباط من مطار زغرب. وأضافت أن «حجم الأسلحة
والذخائر التي نقلت في هذه الرحلات الخمس والسبعين يقدر بحوالى ثلاثة آلاف طن».
وقالت الصحيفة إنّ «الولايات المتحدة نظمت جمع الأسلحة، والسعودية دفعت ثمنها،
بينما قامت تركيا والأردن بنقل هذه الأسلحة التي دخلت من الأراضي الأردنية».
أسوة بكرواتيا، أنكرت الحكومة الأردنية أي صلة لها بالصفقة،
ونفت تمريرها عبر اراضيها، لكنها اقرت بحصول ارتفاع في تهريب الأسلحة الصغيرة،
وأغلبها بنادق آلية، عبر الحدود الأردنية مع سوريا. وقال سميح المعايطة، المتحدث
باسم الحكومة الأردنية: «إن الأردن يسعى جاهدا لوقف تصاعد عمليات التهريب».
رغم النفي الرسمي الاردني والصمت السعودي، إلا إن كلا
الطرفين، وعلى أعلى المستويات، استبقا افتضاح الصفقة بتقديم تبريرات للعملية قبل
أن تكشفها الصحافة بشهر تقريبا، فقد حذر الملك الاردني عبد الله الثاني في دافوس
(في سويسرا)، في 25 كانون الثاني 2013، من أن إحدى المشكلات الكبرى هي أن مقاتلي تنظيم
«القاعدة» أقاموا قواعد في سوريا [في سنة 2012] وأنهم يحصلون على أموال وعتاد من الخارج.
وتابع إن «طالبان الجديدة التي سيضطر العالم للتعامل معها ستكون في سوريا»، مشيرا إلى
أن «القوات الأردنية لا تزال تحارب في أفغانستان مقاتلي طالبان إلى جانب قوات يقودها
حلف شمال الأطلسي». وتابع: «حتى إذا تحقق السيناريو الأكثر تفاؤلا فإن تخليص سوريا
منهم سيستغرق ثلاث سنوات على الأقل بعد سقوط النظام السوري». وطالب الملك الاردني
بضرورة «الحفاظ على الجيش (السوري) ليكون العمود الفقري لأي نظام جديد لتجنب الفوضى
التي سادت في العراق» بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2003.
وتكفـّلَ رئيس الاستخبارات السعودية السابق «تركي
الفيصل» بعرض سياسة الإدارة السعودية، وقال: «أنا لست عضوا في الحكومة (السعودية)،
ولهذا لست مضطرا للتحدث بدبلوماسية. اعتقد أننا نرسل أسلحة، وإذا لم نكن نرسل
أسلحة فانه سيكون خطأ مروعا من جانبنا». واعتبر أن تحقيق التكافؤ العسكري بين قوى
المعارضة والقوات السورية يجب أن يكون مصحوبا بمبادرات دبلوماسية، مشيرا إلى أنه
بالإمكان اختيار «الأخيار من المعارضة وتزويدهم بهذه الوسائل بما يعزز مصداقيتهم».
أما وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل فقال ( في 05
آذار 2013) ان ما يجري في سوريا «يعد قتلا لأناس أبرياء ولا يسعنا أن نبقى صامتين
أمام هذه المجزرة»، مضيفا: «لدينا واجب أخلاقي أن نحمي هذا الشعب، لم أسمع أو أرى
في التاريخ أو في الوقت الحاضر وحتى في أصعب الحالات أن يقوم نظام باستخدام أسلحة
استراتيجية وصواريخ لضرب شعبه وضد الأطفال والنساء وكبار السن ويقوم بضرب مدن
مختلفة، ونحن نتحدث أمام هذا كله عن توفير الغذاء، ونتجادل في ذلك».
وتابع وزير الخارجية السعودي: «أعتقد أننا أثناء
حديثنا، هناك الشعب (السوري) يقف أمام القصف، ونحن لا نستطيع أن نواصل حديثنا فقط
عن المساعدات الغذائية والطيبة»، وقال: «فقدوا الكثير ونحن لدينا صلاحيات أن نتصرف
أكثر، لقد فقد بشار الأسد كل سلطته في ذلك البلد، ولا يمكن لأي شخص أن يتصرف بهذه
الطريقة ويبقى لديه الحق في أن يكون قائدا لتلك الدولة».
وفي مؤتمر صحفي مع وزير الخارجية الاميركي في واشنطن
(في 17 نيسان 2013)، بيـَّنَ سعود الفيصل: «أعتقد أن ما يحدث في سورية هو دليل
جديد على أنه لا إمكانية لحل في إطار الحكومة الحالية». وتابع: «لابد من انتقال
السلطة لكي يكون هناك أمل في الحل السلمي للأوضاع في سورية. نحن سعينا دائما إلى
مساعدة إخواننا في سورية للوقوف أمام الهجمة الهمجية للحكومة السورية ضد الشعب
السوري».
وحول موقفه من تسليح المعارضة السورية، اوضح سعود
الفيصل الموقف الرسمي السعودي دون مواربة: «نحن كما تعلمون نعتقد أن المعارضة
السورية يجب أن تحظى بكل المساعدات التي تحتاجها للتخلص من النظام الفاشي
الإجرامي. ليست لدينا مشكلة في توريد الأسلحة، وقدمنا لهم كل الإمكانيات التي
تمكنهم من تغيير الوضع في بلدهم والاحتفاظ بحياة السوريين وبحضارة سورية التي
يدمرها هذا النظام».
إن قراءة هادئة ومتمعنة لملف «السلاح الكرواتي» تشي
بتناقض بين النية المعلنة والمخفية عند اغلب من ساهموا فيها. فالإدارة السعودية
تقول أنها ارادت ان تحقق هدفين، الاول؛
تصحيح خطأها السابق حين قدمت اسلحة ذهبت إلى جهات سلفية جهادية. ولذلك
ارتأت ان تعوض ذلك بأسلحة متطورة للجيش الحر، لتعديل الكفة وتغليب قوى الاعتدال
على المتشددين.
والنتيجة أن السعودية قد جهزت طرفي المعارضة بما
يحتاجانه من سلاح متطور، وهذا ما ارادته بالضبط. أما هدفها الثاني؛ فهو «تحريك
العملية السياسية بعد الجمود الذي اصابها بعد نشوة انتصار القوات الحكومية. ولكن
النيات السعودية الحقيقية هي ابعد ما تكون عن الرغبة في سحب الاطراف المتنازعة إلى
طاولة المفاوضات والخروج بحل للازمة السورية. فتصفية الثأر البايت مع سوريا وكسر
الحلف «السوري – الإيراني» العميق يأتيان في مقدمة اولوياتها.
أما الاردن، فمليكها الذي يريد المباشرة فورا بتحجيم
التيار السلفي الجهادي، اجاز مرور السلاح الكرواتي «للمعارضة المسلحة المعتدلة».
ولكنه لم يوضح لماذا يسمح بتزويد المعارضة التي تحارب الجيش السوري النظامي الذي
لا يريده أن يتفكك وينهار. كما يشوب الادعاء بأن الأسلحة الجديدة لن يتسرب بعض
منها للتكفيريين، الكثير من الريبة فالكتائب المقاتلة متداخلة ومتعاونة إلى ابعد
حد.
أما الإدارة
الامريكية فهي ترى أن التنظيمات التكفيرية لا تعاني من أي نقص في السلاح، على صعيد
العدة، فمقاتلوها يستولون على اعداد كبيرة من الأسلحة المتنوعة في كل مرة يستولون
فيها على احد معسكرات الجيش السوري النظامي، إضافة للسلاح المُهرَّب من العراق.
لذا، لا ضير في تزويد «الجيش الحر» بما يحتاجه لمعادلة الكفة مع «النصرة»، ولزيادة
الضغط على النظام السوري وإرغامه على القبول بالتفاوض.
لقد تنازل «الجيش الحر» والفصائل الحليفة له عن الكثير
من اسلحته لصالح التنظيمات التكفيرية المسلحة التي تحارب على أرض سوريا. وغالبا ما
حصل ذلك بالتراضي أو عبر معارك صورية انتهت بانسحاب مقاتلي «الجيش الحر» من مواقعه
تاركا «الجمل بما حمل» ليقع بأيدي التنظيمات المذكورة.
سيموت السوريون على اية حال، بسلاح كرواتي أو مسروق من
مخازن عتاد الجيش النظامي أو مهرّب من العراق أو بقصف مدفعي أو ببراميل متفجرة
تهبط عليهم من السماء.
فسماء سوريا ما عادت تهطل مطرا وثلجا .. بل موتا
ودمارا.
وارض سوريا ما عادت تنبت قمحا ودراقا.. بل جوعا وقبورا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق