عادة ما تحمل صباحات العراق أسوأ الانباء والاحداث. وكأن اشراره، وهُم
كـُثر، لا يغفو لهم جفن إلا بعد ان يتيقنوا من انهم اعدّوا أسوأ صباح ممكن وأشدّ
بؤسا من سابقه.
مع انبثاق "فجر" تنظيم «دولة العراق الإسلامية في العراق
والشام (داعش)» المتحول الى «الدولة الإسلامية» في الموصل، كان الهمّ الأول لسُنّة
العراق هو إلحاق هزيمة مدويّة بالرئيس نوري المالكي الذي يرون فيه رمزا لتهميشهم
واذلالهم. ولم يحفلوا بتكاليف وتبعات التحالف مع «داعش» الذي خبروا اسلافه جيدا. كما
حرصوا على وحدانية الخصم: «نوري المالكي وحكومته الصفوية»، فركّزوا على كسب حياد
الاكراد أملا بتأمين ظهورهم ليواصلوا تقدمهم نحو بغداد وديالى مدفوعين بزخم
الانتصار المبهر الذي حققوه في محافظتيْ نينوى وصلاح الدين وقبلهما محافظة الانبار،
الذي يقابله انهيار تام شمل كافة القوات الحكومية. اما الذي يريده العرب السُنّة
من توجههم نحو بغداد، فهو لممارسة اقصى قدر من الضغط لتنفيذ مطلبهم الأساسي ألا
وهو تنحي المالكي عن رئاسة حكومة العراق وإرساء معادلة جديدة للعلاقة بين الشيعة
والسُنّة.
في هذه الاثناء، استبدل مسعود برزاني، رئيس إقليم كردستان شمال العراق،
سياسة القضم البطيء او الخفي، بالاستيلاء المسلح. حيث استولى على كل المدن
والأراضي التي ادّعى عائديتها للإقليم الكردي. وأعلن «عودة الفرع الى الأصل» وأنه
لا انسحاب من ارض الأجداد. وبذلك يعيد مسعود كارثة صدام حسين حين احتل الكويت في
سنة 1990.
كل الأراضي التي استولى عليها مسعود برزاني تقع ضمن حدود المحافظات
السُنّية. وتحتوي على آبار وكوامن بترولية هائلة كفيلة بتوفير مصدر تمويل وفير
للإقليم السُنّي الذي يأمل اهله بإقامته. ولم يكتف مسعود بذلك، فقد قامت مليشيا البيشمركة
الكردية بالسيطرة على آبار نفط كركوك وطرد كل العاملين العرب (جلـّهم سُنّة) فيها
بحجة نيتهم تخريب الآبار بإيعاز من الحكومة المركزية.
كما ادّعي مسعود انه إنّما ضمّ الأراضي المستقطعة من المحافظات السُنّية
انتقاما من امتناع الرئيس نوري المالكي عن تنفيذ المادة 140 من الدستور. أي ان
مسعود عاقب نوري المالكي من خلال الاستيلاء على آلاف الكيلومترات المربعة
المستقطعة من المحافظات السُنّية.
هكذا بكل سفاهة وتفاهة وبحجج لا تنطلي على عبيط، يريد «الاكراد
السُنّة» ان يقنعوا «العرب السُنّة» بأنهم إنما أقصوا ابناءهم من وظائفهم ومناصبهم
وحرموهم من مصادر رزقهم ورموهم على قارعة الطريق، إلاّ استباقا لمؤامرة تحوكها
الحكومة المركزية في بغداد الشيعية [= نوري المالكي الشيعي]. لقد اقدم «الاكراد السُنّة»
على ما لم يرتجيه «العرب السُنّة» منهم، عبر الاستيلاء على أراضيهم ومدنهم وتهديد
الوجود العربي السُنّي في كركوك.
دافع مسعود برزاني عن الحراك السُنّي وعزاه للتهميش والاقصاء الذي
مارسه نوري المالكي الشيعي بحقهم، وإذا به يأتي على ما هو أشدّ هولا ووقعا.
ولا يمكن لعدم الرضا المصطنع الذي يُبْديه حزب جلال طالباني ان ينطلي
على أي متابع حصيف، فهو لا يعدو عن مناورة رخيصة لاعطاء فسحة للتراجع ولتسهيل مرشح
الحزب لمنصب رئيس الجمهورية. وهذا من سخريات القدر.
هناك من يتساءل: ماذا يفعل السُنّة وإلى أين هم ماضون، فهم تحالفوا
أولا مع «داعش»، النسخة المحضة لتنظيم القاعدة الذي خبروا اهواله وجوره، وها هم
يتكئون على الاكراد فلم يلقوا منهم سوى الخيانة والانتهازية. ماذا بقي للسُنّة
وبماذا خرجوا من حراكهم؛ فها هما إقليم كردستان و«الدولة الإسلامية» يتقاسمان
المغانم ولم يبقيا للتنظيمات السُنّية المسلحة وحزب البعث العراقي سوى الحصرم
والحسرة. ولمّا يتحقق بعدُ هدفهم الأول ألا وهو تشكيل حكومة جديدة بدون نوري
المالكي.
لقد ادلى عزة الدوري نائب الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين (1937 ـ
اعدم 2006) برسالة صوتية بتاريخ 13 تموز
2014، أقرّ فيها بالدور المحوري الذي لعبه تنظيم «داعش» وأكد على :
1) ان «أبطال
وفرسان القاعدة والدولة الإسلامية هم في طليعة المجاهدين» الذين حرروا محافظْتيْ نينوى
وصلاح الدين. كما ذكر التنظيمات العراقية المسلحة المشاركة كـ«رجال الطريقة النقشبندية
ومقاتلي الجيش الوطني ومقاتلي القيادة العليا للجهاد والتحرير ومقاتلي الجيش الإسلامي
ورجال كتائب ثورة العشرين ومقاتلي جيش المجاهدين وبعض مجاميع أنصار السنة».
2) شددَ على إدامة الزخم
من خلال استمرار التلاصق والوحدة بين الفصائل المتحالفة لحين تحقيق الهدف النهائي،
فـ«إن الانتصارات
المتلاحقة والمتسارعة في الأنبار وفي ديالى وعلى مشارف بغداد قد شكلت انعطافا تاريخيا
هائلا في مسيرة الأمة الجهادية لتحقيق حريتها ووحدتها».
3) المعركة كبيرة والهدف
وجودي، ورغم ان نصف العراق قد "تحرر" تقريبا، فإنه لم يتمكن أحد (بعد)
من «إزاحة
شخص واحد عن غيـِّه» في إشارة ضمنية منه إلى تعذر تنحية (او تنحّي) الرئيس نوري المالكي.
اما انتهاكات مسعود، فلم يتوقف عزة عندها، لا مـِنْ قريب ولا من بعيد.
هناك اصرار واضح على منع تعدد الخصوم.
إن ما يفعله عزة الدوري هو نفس ما فعله صدام حسين اثناء الحرب
العراقية ـ الإيرانية (1980 ـ 1988)، حيث تصالح مع كل الدول الإقليمية والولايات
المتحدة. ولم يعادِ الا الدول التي دعمت ايران. وهذه ستراتيجية مغايرة تماما
لستراتيجية الرئيس نوري المالكي وحزب الدعوة الذين خاصموا الأصدقاء قبل الأعداء.
وها هو عزة الدوري يسير على نهج معلمه.
يعلم عزة الدوري جيدا ان "الكونسرتيوم" الذي ائتلف ودعمه ضد
حكومة بغداد يمثل فرصة تاريخية لن تتكرر، اجاد حزب البعث العراقي استثمار شبيهاتها
على افضل وجه، لذا فهو لا يريد ان ينشغل بالثانويات.
الثانوي لدى عزة الدوري وجماعته هو استرجاع ما استولى عليه إقليم
كردستان، فقد علمته الأيام ان الاكراد هم دوما الخاسر الأكبر في لحظات الوئام
الإقليمي والوطني. وعلى هذا الأساس يرى المسلحون ان استرجاع كل ما
"سلبه" مسعود سيكون امرا تلقائيا محتما بمجرد وضوح الصورة في بغداد.
لكن الامر ليس كذلك عند «الدولة الإسلامية»، فهم لم يفعلوا ما فعلوه
من اجل عين إقليم كردستان، وبمجرد ان ينتهوا من ترتيب شؤونهم في نينوى وصلاح الدين
وديالى، فسيحيلون الحدود الطويلة التي تبلغ اكثر الف ومائتي كيلومترا الى جحيم
مستعر. وسيواجه إقليم كردستان المستقر الآمن مقاتلين قساة لا يخشون على شيء؛ لا
حياتهم ولا مواطنيهم ولا بلداتهم الخَرِبة أصلا.
الطرف الآخر المهم الذي لم يراعيه مسعود بارزاني هو
"الكونسرتيوم"، الجهة الراعية والمُنظـِّمة للحدث بأكمله. دون ان ننسى
ايران.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق