إيران تحرق سمعتها
احمد هاشم الحبوبي
افتتحت الإدارة السعودية سنة 2016 بتنفيذ أحكام إعدام صادرة بحق 47 شخصاً
مدانين بالإرهاب، إثنان منهم أجانب (مصري وتشادي)، وخمسة وأربعون منهم سعوديون،
بينهم رجل الدين الشيعي المُعارِض نمر النمر.
ونظراً للاشتباك المُحتدِم بين السعودية وإيران، على امتداد جبهات
الاقليم، لا يمكن النظر لإعدام نمر النمر على أنه مجرد تنفيذ لحكم قضائي صادر منذ
تشرين الأول 2014 بحق مواطن، فمن الواضح جدا ان اعدامه هو رسالة استفزازية لإيران.
ولا داعي لتكلُّف عناء الردّ على من يزعم أن «ما جرى شأن داخلي سعودي ليس لإيران
أن تتدخل فيه»، فلا داعي للتذكير بأنّ البلديْن يشتبكان تحت عنوان مذهبي محض،
أحالَ كل منهما إلى قيِّم حصري على كل ما يخص مذهبه.
وأظهرتْ تداعياتُ اعدام نمر النمر في إيران أن السعودية نجحت في
استفزاز (متشددي) إيران إلى الحد الأقصى. فلم يكتفوا بالتظاهر السلمي أمام البعثتيْن
السعوديتيْن في طهران ومشهد، بل اقتحموا المقرّيْن وأحرقوهما. وهذا تصرّف أقدم
عليه الإيرانيون ست مرّات سابقاً، توزعت على السفارات التالية:
1979: اقتحام السفارة الأمريكية واحتجاز رهائن أمريكيين لمدة 444 يوما.
1987: اعتداء على سفارتي السعودية والكويت بعد اشتباكات بين قوات الأمن
السعودية وحجاج إيرانيين.
1988: متظاهرون يهاجمون سفارة الاتحاد السوفييتي بدعوى دعم العراق في
الحرب ضد إيران.
2006: اعتداء على سفارة الدنمارك في مظاهرات غاضبة بسبب أزمة الرسوم المسيئة
للدين الإسلامي.
2009: متظاهرون إيرانيون يهاجمون السفارة الباكستانية في طهران.
2011: اقتحام السفارة البريطانية بعد فرض عقوبات على إيران بسبب
برنامجها النووي. [1]
إن هذا التاريخ الإيراني الحافل بعدم احترام حرمة سفارات الدول،
استجلبَ إدانة دولية شاملة تجلّتْ ببيان تنديد شديد من مجلس الأمن الدولي بموافقة
كامل أعضائه، بضمنهم روسيا الاتحادية.
لقد غَطَّت الحادثتان على القضية الرئيسية، ألا وهي إعدام الشيخ نمر
النمر، فبعد أن كانت الدول والمنظمات الدولية منهمكة باستنكار ذلك ، انقلب الأمر
إلى التنديد بعجز السلطات الإيرانية عن
حماية مقرات البعثات الدبلوماسية. وهذه خدمة ما كانت السعودية تحلم بها، خاصة
وأنها أتتْ مِن إيران بالذات. أما الأضرار التي لحقت بإيران فهي كبيرة، ويمكن
إيجازها بما يلي:
أولاً: ظهرت إيران بعيدةً كلّ البعد عن الهيئة الجديدة التي تريد أن
تظهر بها أمام المجتمع الدولي كقوة إقليمية كبرى وكدولة مدنية متحضرة تقف على
أعتاب العودة إلى أحضان المجتمع الدولي بعد سنوات طويلة من المقاطعة والخصام
والاتهام برعاية الإرهاب.
ثانياً: بدت إيران منقسمة بين سلطتيْن؛ الحرس الثوري والمؤسسات الأمنية
التي يقودها المتشددون المقربون من الرئيس الأعلى السيد علي خامنئي، وسلطة الرئيس حسن
روحاني.
ثالثاً: خَرَقَ المتشددون الإيرانيون الستراتيجية الإيرانية التي دأبت
على إظهار الإدارة السعودية الحالية كإدارة متشددة خرقاء، والرد على استفزازاتها
في جبهات المواجهة الخارجية وليس في قلب طهران ومشهد.
لا يمكن لأحد في بلدان الشرق الأوسط أن يدّعي بأنّ مظاهرتيْن مدنيتيْن
عفويتيْن يمكن أن تنتهيا باقتحام مقرّين دبلوماسييْن وإحراقهما دون مُباركة من أحد
أجهزة الدولة. وإذا جادل أحد وقال بإمكانية حصول ذلك، فقد كان على الجهات الأمنية
التفكير بحصول هكذا اعتداء، خاصة وإنّ للإيرانيين سجلهم الحافل في اقتحام السفارات
كما هو مبيّن. وبالطريقة المعتادة في الشرق الأوسط، وصف إماما جمعة طهران ومشهد ما
جرى على أنه «جريمة ومؤامرة من إعداد السعودية»، دون أنْ يُبيِّنا كيف تمكنت
الأخيرة من تجنيد كل أولئك المتظاهرين وسبب تهاون القوات الأمنية معهم.
إن عدم رضا، بل غضب، الرئيس حسن روحاني كان واضحاً من اللحظة الأولى.
حيث ندد بالحادث وأمر وزارة الداخلية بتوفير الأمن والقبض على المتورطين. وأعلنت
وزارة الداخلية الإيرانية، في بيان نشرته وكالة أنباء «فارس»، أنه «استناداً إلى
تحقيقات أولية، ثبتت أخطاء (من قبل) صفر علي باراتلو، نائب حاكم طهران لشؤون
الأمن، وقد تم استبداله على الفور بسبب حساسية القضية» [2]. وبعد أن أُلْقِيَ
القبضُ على أكثر مِن خمسين متهماً،طالبَ روحاني رئيسَ السلطة القضائية، بإجراء
محاكمة سريعة وفعالة للمتهمين وأن «لا يترك (ملّفُهم) للنسيان من أجل وضع نهاية
حاسمة لكل الإساءات والأضرار التي لحقت بكرامة إيران والأمن الوطني».
وأكّدَ روحاني أنَّ «هذا النوع من الاعتداءات ضد أمن البلاد والتي تشكل
إهانة للسلطة يجب ألا تتكرر من خلال معاقبة الذين قاموا بها وكذلك الذين أعطوا
الأمر للتحرك».
لقد انتبه المجتمع الدولي للانقسام الحاصل في إيران إزاء حادثة
الاقتحام، وصرّح وزير الخارجية البريطاني الأسبق جاك سترو بأنّ «حماية الممتلكات
الدبلوماسية هو أمر أساسي للعلاقات الدبلوماسية، وهذا ما أغضب الرئيس روحاني، ما
حصل لم يكن مظاهرات عشوائية من قبل مجموعة من الأشخاص بل تم تنظيمها من قبل الباسيج
وهي ميليشيا غير رسمية متصلة بقوات الحرس الثوري الإيراني» [3].
كما أدانَ رئيسُ لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشوری الإيراني
علاء الدين بروجردي حادثيْ الاقتحام وقال «إننا لا نعتبر الثورية في إثارة الضجيج
والتحرکات العنفية، ولقد دعونا علی الدوام إلى العقلانية والحكمة في جميع المجالات
منذ الماضي ولغاية الآن». وشدد بروجردي على «ضرورة التعاطي مع العالم» [4].
وبيَّنَ وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أنَّ «الاستراتيجية
السعودية لعرقلة الاتفاق النووي وإدامة أو حتى زيادة التوتر في المنطقة تقوم على
ثلاثة عناصر: الضغط على الغرب، تكريس حالة عدم الاستقرار الاقليمي من خلال شن حرب
في اليمن ورعاية التطرف، واستفزاز إيران بشكل مباشر». كما أكَّدَ على أنَّ «الحكومة
الايرانية وعلى أعلى المستويات دانت بشكل لا لبس فيه الهجوم على السفارة والقنصلية
السعوديتين في طهران (ومشهد) يوم الثاني من كانون الثاني، كما أعلنت ضمان سلامة
الدبلوماسيين السعوديين» [5].
إن الإدارة السعودية ليست راضية عن مسارات الأمور في المنطقة، فهي غير
راضية عن نتائج حربها على اليمن التي دخلت شهرها العاشر دون أن تأتيَ بحل يرضيها.
كذلك الحال في سوريا، فالسعودية قلقة جدا من احتمال أن تضع الحرب الأهلية السورية
أوزارها دون الإطاحة بالرئيس بشار الأسد الذي استعاد عافيته بعد التدخل الروسي
الفاعل لصالح الجيش العربي السوري. لذا فمن مصلحة السعودية أن تدفع المنطقة نحو
مزيد من التأزيم، سعياً لتخريب محاولات التسوية السلمية.
ما كانت العلاقات السعودية ـــ الإيرانية في أحسن أحوالها، بل هي في انحدار
مستمر، ازدادت وتيرته بعد رحيل الملك عبد الله عبد العزيز. وكان قرار قطع العلاقات
مع إيران موضوعاً على الطاولة بانتظار أي فرصة سانحة لإعلانه. على العكس من الإيرانيين
الذين لم يفكروا بذلك أبداً، رغم أنهم كانوا يتوقعونه من السعودية، فهم لم يقدموا
على قطع العلاقات بعد حادثة منى في موسم حج 2015 الذي أودى بحياة أكثر من أربعمئة
حاج إيراني، وما سبقها من حادثة الاعتداء الجنسي على شابيْن معتمريْن من قبل رجال
أمن سعوديين في مطار جدة. وهما حادثان لا يقلّانِ خطورة عن حرق السفارة والقنصلية.
إن الدخول الأمريكي والروسي المباشر في ملف سوريا أراحَ إيران وأقلقَ
السعودية. أما الانغماس الأمريكي في ملف العراق فهو أقلقَ إيران والسعودية على
السواء. لذلك يمكن توقع المزيد من البلبلة والاضطرابات في بلاد ما بين النهريْن.
المصادر:
[1] الموقع الالكتروني
لقناة CNN بالعربية (5 كانون
الثاني 2016)
[2] الموقع الالكتروني
لصحيفة السفير اللبنانية (12 كانون الثاني 2016)
[3] الموقع الالكتروني
لقناة CNN بالعربية (8 كانون
الثاني 2016)
[4] الموقع الالكتروني
لصحيفة الأخبار اللبنانية (11 كانون الثاني 2016)، مقال بعنوان «طهران: التعقل
لا يدوم من جانب واحد».
[5] الموقع الالكتروني
لصحيفة السفير اللبنانية (11 كانون الثاني 2016)، مقال بعنوان«التطرف السعودي
المتهور» بقلم وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق