صدام حسين ونوري المالكي .. تطابق
الحصيلة
أشْبَهْتَ أعدائي فصرتُ أحبُّهم إذ كان حظّي منك، حظّي منهمُ (أبو الشيص
الخزاعي)
أحمد هاشم الحبوبي
بعدَ أنْ ضَرَبتْ دولة «داعش» أطنابها على
أكثر من ثلث مساحة العراق في حزيران 2014، ونحن نعيشُ (حينذاك) أجواء الهزيمة
والسخط من الطبقة الحاكمة ممثلة برئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة نوري
المالكي، التقيتُ صديقاً كان يعمل في مؤسسة حماية كبار مسؤولي الدولة من وزراء
وأعضاء مجلس قيادة الثورة أيّام العهد السابق. بادَرَني صديقي قائلاً: «اليوم
تيقنتُ من عراقية ووطنية (نوري) المالكي، فحين جيء به رئيساً للوزراء، ظننتُ أنّه
عميلٌ لإيران أو دُمْية أمريكية، أو الاثنين معاً، إلى أنْ رأيتُ مآلَ عهده؛
احتلالٌ وخراب وجوع، فتيقَّنتُ أنه صناعة عراقية خالصة بِلا أيّة شائبة». وأكملَ
(صديقي) بانبهار: «أنظُرْ إليه .. أنظر إلى حصيلته، إنّه نسخة من صدّام حسين،
إنهما توأم». أعتبر صديقي مؤشر «الفشل» مقياساً وحيداً لـ«مواطنة الحاكم».
للوهلة الأولى تبدو المقارنة بين
الرئيسيْن ليست واقعية أو ليست منصفة، فمن غير الممكن مقارنة «ديكتاتور» بآخر «أُخْتيرَ
ديمقراطياً»، لكن أداءهما وحصيلتيْ حكمهما متطابقان إلى حد عجيب؛ في الأداء عبر
تفريطهما بفرص النهوض بالبلد واحدة تلوة الأخرى، وفي الحصيلة انتهت مسيرة الأول
بالعراق بلداً مُحْتَلاً دنَّسته قوات الغزو الأمريكية والبريطانية، وانتهت حقبة
الثاني بغازٍ جديد، تنظيم «داعش»، الأشدُّ هولاً وفتكاً مِن سابقه. ولأسباب مختلفة
يتطابق الرئيسان في حجم الدماء التي أُريقتْ والأرواح التي أُزْهِقَتْ في
عهديْهما.
صدام حسين
حين تبوأ صدام حسين سدّة الحكم في
تمّوز 1979، ما كان العراقُ جنة الله في الأرض، لكنّه كان يحثّ الخُطى بالاتجاه
الصحيح، حيث أنفقت الدولة الكثير من الأموال لتجديد وتشييد البُنى التحتية وفق
أفضل المعايير العالمية، وأقامتْ علاقات جيدة مع كل دول الجوار (ساهم صدام بنفسه
في تحسين العلاقات مع إيران من خلال توقيع اتفاقية الجزائر للقضاء على التمرد
الكردي المسلح الذي كانت تستعمله إيران لإنهاك وابتزاز العراق)، إضافة لأنظمة الضمان
الصحي والتعليم المجاني ومحو الأمية التي شهدَ لها العالم بالنجاح، وأخيراً وضعٌ
اقتصاديٌ مزدهرٌ أثمر عن فائض مالي يتجاوز الأربعين مليار دولار.
اسفرت الحرب العراقية – الإيرانية،
المغامرة الأولى لصدام حسين، عن تباطؤ ثم توقف المشاريع الكبرى المُخطط إنشاؤها بسبب انشغال الدولة بإدامة مستلزمات الحرب
الطويلة، فاستبدلَ العراقُ فائضه بدَيْن خارجي بلغَ عدّة عشراتٍ من مليارات
الدولارات.
وعلى الصعيد الإنساني فقد أراقَت الحرب دماء مئات الآلاف من
العراقيين. ولم يَسْتَعِد العراق شبراً واحداً من الأراضي والمياه التي كانت من
ضمن أسباب اندلاع الحرب. وأخيراً، وإيغالاً في العبثية وسوء التخطيط، عادَ (صدام) وأعترفَ
بمعاهدة الجزائر التي ألغاها من جانب واحد في بداية الحرب.
أما على الصعيد الاجتماعي، يمكن اعتبار
تفشّي ظاهرة الرشوة (التي هي أبرز معالم فساد الدولة) التي عادت تدبُّ في مختلف
مفاصل الدولة وبالذات بين ضباط الجيش، ولكنه كان فساداً تحت السيطرة، فالانضباط
بقي سائداً والروح القتالية عالية بما كفى لتحقيق النصر في الثامن من آب 1988. لكنّ
هذا الفساد لم يبقَ تحت السيطرة، بل فلت عقاله وتسبب في صناعة قادة عسكريين فاشلين
متخاذلين احترفوا الكذب والتملق والارتزاق وسيتسببون بضياع مساحات شاسعة من العراق
في حزيران 2014.
رغم كل خسائر الحرب العراقية -
الإيرانية، كان يمكن للعراق أن ينهضَ من جديد ويعوّض ما فاته من تنمية، إلاّ أنّ
صدام ضيع هذا المُمْكِن وأقدم على احتلال البلد العربي الشقيق الكويت في 2 آب 1990.
وأضاعَ فرصة ثانية لتصحيح خطيئته برفض الانسحاب لينتهي الأمر بأنْ واجهَ العراقُ
العالمَ كلّه في حرب غير متكافئة بعد أن اقنعته بطانتُه وغرورُه بأن الجيش العراقي
بمفرده سيسحق جيوشَ 33 دولة، تتقدمهم أميركا وبريطانيا والسعودية. لقد دمَّرَتْ
قوات التحالف الدولي المئات من الجسور وكل محطات الكهرباء ومراكز الإتصالات ومئات الأبنية
الحكومية. ثم أتى الحصار الدولي على ما بقي من النُظُمِ الصحية والتربوية
والاجتماعية بشكل شبه كـُلّي. وأكملَ الغزو الأمريكي – البريطاني (9 نيسان 2003)
المهمة بأنْ أتى على السلم الأهلي والاجتماعي في البلد.
بعد أقل من ساعة من سقوط بُرجيْ التجارة
في نيويورك في 11 أيلول 2001، تنبأتْ سيِّدة أثقُ برؤاها بأنَّ أمريكا ستحمِّل العراق
مسؤولية تلك الهجمات وتتخذها ذريعة للهجوم عليه. أساس هذا التوقّع هو سخط الولايات
المتحدة من نظام الحكم في العراق واختلاقها الأعذار للتنكيل بالبلد. لقد سارعت دول
العالم كافة للتنديد بمرتكبي تلك الجريمة وقدمت التعازي لحكومة الولايات المتحدة.
وبدلاً من أن يستثمر العراق تلك الفرصة لتحسين علاقته بالولايات المتحدة والنأي عن
مرتكبي الاعتداء، وجهت الحكومة رسالة سخيفة مليئة بالتشفي وصفت فيها ما جرى
في علىٰ أنه انتقام إلٰهي لسوء سلوك
أمريكا. طبعاً الدول لا تبني ستراتيجيتها بشكل عاطفي، ولكن أول الحرب كلام. بقي
صدام يكابر ولم يُبادر لتحسين العلاقة مع المجتمع الدولي والإقليم إلاّ بعد أن
فاتَ الوقت.
رغم مغامرات وحروب صدام المُكَلِّفة،
إلا أنّ عجلة البناء والإعمار لم تتوقف طوال فترة حكمه، رغم أنها تباطأت. كما
تمكنت الحكومة من تأمين الحصة التموينية كاملة طوال فترة الحصار رغم محدودية
الموارد. والشيء الذي يُذكر لصدام حسين هو مقته للرشوة والمرتشين، لذلك كان يُوقع
أقسى العقوبات بمن تثبت عليه تعاطي الرشوة، خاصة المسؤولين الكبار.
نوري المالكي
لا يمكن مقارنة عراق تموز 1979، بعراق
أيار 2006 (تاريخ تبوأ المالكي منصب رئيس وزراء العراق)، فبعد 2003 استحالَ
العراقُ إلى أرض يباب، والبلدُ مُحتَلٌ ومُستباح والحرب الأهلية المذهبية مستعرة.
لكن تجوز مقارنة عراق آب 1988 [= تاريخ انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية]، الذي
أضاعه صدّام، بعراق 2008 [= انتهاء الحرب المذهبية واستتباب الأمن في كافة أنحاء
العراق]، فقد كان ممكناً أن يُشكّلَ هذان التأريخان بداية لانطلاقة جديدة. إلاّ
أنَّ نوري المالكي، كسابقه [= صدام حسين]، فشلَ فشلاً ذريعاً في اقتناص تلك الفرصة
التاريخية الثمينة للانطلاق بالعراق نحو مستقبل آمِنٍ ومُشْرق رغم توفر كل الظروف
الموضوعية لذلك.
اتصّفَ عهد نوري المالكي بالعجز والفشل. فقد عجز عن تحقيق أي خرق في المشاكل
الأساسية التي يعاني منها العراق، كضعف الأمن وتضاؤل سلطة الدولة والكِباش السياسي
وتردّي الخدمات إضافة إلى النقص الحاد في توليد الطاقة الكهربائية الذي أدى إلى
توقّف عجلة الصناعة العراقية بسبب ارتفاع كلف التشغيل (الطاقة تأتي في مقدمتها) ومنافسة
المُنْتَج الاجنبي لمثيله العراقي. لقد نكّلت الحكومة بالمُصَنِّع العراقي
مرّتيْن؛ أولاً حين امتنعت عن دعمه لتجاوز تكاليف انتاج أو شراء الطاقة المرتفعة،
وثانياً حين تقاعست عن حماية المنتَج المحلي من منافسة المنتَج الأجنبي. لقد تسببت
هذه السياسة اللامسؤولة بتضرر مداخيل عدة ملايين من العراقيين. إنّ الذي جرى على
الصناعة، جرى على القطاع الزراعي، وصار العراق يستورد كل شيء ومن كافة أصقاع
العالم، من جنوب أفريقيا إلى كوريا فاليونان.
بررت حكومة المالكي موقفها هذا بأن
العراق سوق مفتوحة، البقاء فيه للأقوى والأكفأ. وهذا منطق ظالم ومرفوض اقتصادياً،
فحتّى الدول صاحبة أقوى الاقتصادات، تؤمِّن الدعم والحماية لصناعاتها المحلية
للحفاظ على ديمومة فرص العمل ونموّها بما يؤمّنُ فرص العملِ للأجيال الصاعدة. لم
تتقاعس حكومة المالكي عن دعم قطاعيْ الصناعة والزراعة، لكن الدعم لم يذهب إلى من
يستحقه فعلاً. كما لم تفرض رقابة حقيقية وسياسة عقاب وثواب على الذين تحصلوا على
ذلك الدعم.
واصطبغ عهد المالكي بتفشي ظاهرة
الرشوة. إنّ الرشوة وضعف الأداء الحكومي ليسا طارئيْن على العمل الحكومي في
العراق، بل هما صفتان موروثتان من عهد الاحتلال العثماني، ثم سبتا مع تأسيس الدولة
العراقية المستقلة، ليُكشِّرا عن أنيابهما من جديد بعد بضع سنوات من اندلاع الحرب
العراقية – الإيرانية كما أسلفنا. واستمر الحال بالتفاقم إلى أن بلغَ ذروته أثناء
الحصار الدولي على العراق. إلاّ أن الداء انتشر وتوسع بشكل جارف غير مسبوق بعد
نيسان 2003، بحيث أنه شمل كلّ القطاعات. ووصل الأمر إلى حد أن العراقي صار يدفع
الرشوة من أجل الذهاب إلى الحج. وهذا مثال كافٍ يبين كيف أن الرشوة صارت وسيلة أساسية
يستعينُ بها المواطن لانجاز معاملاته في كل دوائر الدولة. وبالنتيجة امتد الداءُ
إلى الوظائف الحكومية التي صارت سلعة تباعُ وتشترى حالها حال بقية السلع، من منصب
الوزير إلى أصغر وظيفة، ومن قائد الفرقة إلى الجندي. مَنْ يدفع أكثر يحصل على
المنصب الأفضل [1].
أما ضعف الأداء الحكومي فمردّه «وضع
الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب». وامتازت الغالبية الساحقة من
المسؤوليين المُعينيين (على أساس عرقيٍّ ومذهبي) بضعف الأداء وبـنهم عارم للارتزاق
عبر استغلال المنصب لتحقيق مكاسب شخصية وعائلية وحزبية. كل ذلك كان يجري تحت سمع
وبصر ورصد المالكي الذي لم يفعل شيئاً لأي من أولئك السرّاق. بهذه الإدارة الرعناء
أهدر المالكي فرصة مؤاتية لتغيير اتجاه المؤشر من الهبوط نحو الصعود. أكّدَ
المالكي في أكثر من مناسبة بأنه يملك ملفات فساد بحقِّ عدد من كبار مسؤولي الدولة
تعهّدَ بكشفها «في الوقت المناسب»، إلاّ أنّه لم يكشف أيٍّ من تلك الملفات. ولم
يبرر أسباب نكثه بالعهد.
ومع الانسحاب الأمريكي في كانون الأول
2011، أجّجَ نوري المالكي الاشتباك الشيعي
- السُنّي (المحتدم منذ لحظة سقوط بغداد) حين اتخذ نوري المالكي قرارا استراتيجيا
بكسر شوكة السُنّة الى الأبد، فعاد من واشنطن كالثور الهائج ليُطيحَ تباعاً بالعديد من الوجوه السُنّية
المُشاركة بالسلطة مبتدئا بطارق الهاشمي ثم صالح المطلك ورافع العيساوي، ولم يتوقف
الا بالنائب احمد العلواني الذي شكل اعتقاله بداية الرد المسلح على تعسف الدولة
تجاه العرب السُنّة. فأمسى السُنّةُ بلا قيادة، الأمر الذي سهَّل على التكفيريين
ملء هذا الفراغ والسيطرة على إرادة ملايين الأفراد.
هل يعني هذا ان شركاءه السُنّة كانوا
ملائكة ولمـّا استفزهم المالكي تحولوا الى شياطين، الجواب بالتأكيد لا، ولكن
الرئيس نوري المالكي، الآمر الناهي في العراق بموجب الصلاحيات التي منحه إياها
الدستور، هو المسؤول الأول عن كل ما جرى لعدم تقديره لأهمية الوحدة الوطنية في هذه
اللحظة المفصلية من تاريخ البلد. لقد عجز عن ترتيب الأولويات وتملّكه وسواس المؤامرة
الذي استحوذ على كامل وعيه وإدراكه وسلوكه. ولم يرتقِ إلى متطلبات منصبه كرئيس لكل
العراق المُنْقَسِم أفقياً وعمودياً. بالتوازي مع ذلك ترسَّخَ سوء الأداء الحكومي
والفساد المالي من الرأس إلى القدم، الأمرُ الذي تسبب بالمزيد من تبديد ثروة
البلد.
إنّ قادة الحرب الأهلية ليسوا ملائكة
أو مناضلون مسالمون من نوع المهاتما غاندي، بل هم قادة لأجنحة عسكرية كانت تتقاتل
فيما بينها. والصُّلْحُ يعقدُ بين المتحاربين، لذلك ليس لأحد أن يحاكم أحداً على
ما ارتكب أثناء الحرب الأهلية. أقرب مثال على ذلك لبنان، فزعماء الطوائف
والمليشيات المتحاربة أيام حربهم الأهلية هم أنفسهم الذين يحكمون لبنان حتى هذه
الساعة. كما تصالحت إسرائيل مع منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة بالراحل ياسر عرفات
رغم أنها كانت تعتبره عدو إسرائيل رقم واحد.
بقي نوري المالكي يتبجح بمسك الأمن
وإعادة بناء القوات المسلحة العراقية وامتداد سلطة الدولة إلى كافة انحاء العراق.
لكنّ واقع الحال كان عكس ذلك تماماً، فمحافظةُ نينوى يحكمها «تنظيم القاعدة» ليلاً
وتحكمها الدولة – شكلاً - نهاراً، وصار أبناء الموصل يدفعون الأتاوات جهاراً
نهاراً لوكلاء التنظيم والتنظيمات المسلحة المتعاونة معه على مرأى ومسمع القوات
الحكومية. كما يسيطر أتباع التنظيم على كامل صحراء الأنبار والمدن المحاذية لها.
أما بقية المدن العراقية، وفي مقدمتها بغداد، فحَوَّلها الإرهابيون إلى ميادين قتال
يفجّرونها متى يشاؤون. والدولة لا تفعل شيئاً سوى إضافة المزيد من التحصينات على
معاقلها لجعلها منيعة على الإرهابيين. أما المدنيون فمستباحون بالكامل.
في 21 تموز 2013،نَفَّذَ تنظيم القاعدة
والتنظيمات المتجحفلة معه مجموعة هجمات ناجحة بلغت ذروتها في غزوة «قهــر
الطواغيت» ، عبر اقتحام سجن «أبو غريب» وتحرير أكثر من 1100 مقاتل من مقاتليه
الأشدّاء المُدانين ونقلهم إلى أماكن آمنة لينتقلوا بعد ذلك إلى سوريا. إنّ غزوة
«قهر الطواغيت» ليست كبقية «الغزوات»، فهي عملية نوعية تؤشر تخطيطا عالي المستوى
من قبل «القاعدة»، وفضحتْ ضعف التنسيق بين الأجهزة الامنية العراقية وتراخيها [2].
وأصدر تنظيم «القاعدة» العراقي، في 23 تموز 2013، بياناً تبَنّى فيه
العملية وأطلق عليها غزوة «قهــر الطواغيت». وجاء في البيان ان «كتائب المجاهدين انطلقت
بعد التهيئة والتخطيط منذ أشهر، مستهدفة اثنين من أكبر سجون الحكومة استجابة لنداء
الشيخ المجاهد «أبو بكر البغدادي» في أن تختم خطـّة «هدم الأسوار» المباركة التي
بدأت قبل عام من اليوم بغزوة نوعيّة تقهر الطواغيت المرتدّين وتكسر القيود وتحرّر
الأسود الرابضة في غياهب السجون». وتمّ «تحرير المئات من أسرى المسلمين بينهم ما
يزيد على 500 مجاهد من خيرة من ولدتهم الارحام، وممّن عركتهم الحروب وصقلتهم سوح
النِّزال ولم تزدهم محنة الأسرِ إلا صبراً وثباتاً وشوقاً للجهاد في سبيل الله
والنكاية في أعدائه، وقد تم سحبهم وإخلاؤهم لأماكن آمنة دون العدو والوصول إليها
أهوال ومصائب». وشكّل هؤلاء المقاتلون الذين تحدث عنهم البيان، القوّة الضاربة
الأساسية التي غزا بها «داعش» أكثر من ثلث العراق في حزيران 2014.
وسقطَ ادّعاء الأمن الممسوك الذي كان
المالكي يتبجح به مع سقوط الفلوجة في كانون الثاني 2014، أكبر الأقضية العراقية،
التي تبعد عن بغداد ستين كيلومترا فقط، بِيَد تنظيم «داعش»، لتتبعها، بعد أقل من
خمسة أشهُر، خمس محافظات عراقية، كلياً أو جزئياً، تشكل مساحتها أكثر من ثلث مساحة
العراق. ليخرج المالكي على الجماهير ويعلن إن ما جرى كان مؤامرة، وهي فعلاً مؤامرة
مكتملة الأركان، دون ان يُبيِّن أين كانت أجهزته الأمنية من تلك المؤامرة. ومن السذاجة
انتظار ردٍّ منطقي على هذا التساؤل.
أحاطتْ بنوري المالكي بِطانة انتهازية
فاسدة فاشلة من القادة العسكريين شبيهة بالبطانة التي أحاطت بصدام حسين أثناء
حروبه مع أمريكا التي لم تُسمعْهُ سوى ما أحبَّ سماعه وأقنعته بأنّ الراعي العراقي
سيسقط طائرة الشبح الأمريكية وأن الجيش العراقي سيهزم الجيشيْن الأمريكي
والبريطاني مجتمعيْن. كذلك الحال مع المالكي الذي صَدَّقَ أكاذيب ضباطه وقادته
الفاسدين الذين اقنعوه بأنّ الوضع تحت السيطرة حتى وهُم في طريق الهروب من الموصل.
لقد أمدّني صديقي المذكور بمعلومات مُفَصّلة
غاية في الأهمية ساعدتني في فهم الدوريْن المحلي والإقليمي اللذيْن أسهما في إقامة
دولة «داعش»، دون أن ننسى تخاذل وخيانة كبار ضباط وقادة القوات المسلحة العراقية. ومن
المهم أن أذكر بأنّ هجوم «داعش» وأخواته ما كانَ مفاجئاً، فالقوات الحكومية كانت
مُسْتنفرة وعلى معرفة تامة بتوقيته. ولكن توفر المعلومة الاستخبارية وقلة عدد
المهاجمين مقارنة بعدد القوات الحكومية الموجودة في نينوى وصلاح الدين لم يساعدا
في شيء.
ورغم الهزيمة النكراء، لم يستقل نوري
المالكي من منصبه، بل أصرّ على تكليفه لتشكيل حكومة جديدة مستنداً على نتائج انتخابات 30 نيسان 2014 التي
اسفرت عن فوز كتلته بأكبر عدد من المقاعد (95 مقعدا نيابيا). ولم يتراجع عن ذلك إلاّ بضغط حازم وساحق من السفارة
الأمريكية في بغداد. فاضطر لسحب ترشيحه وأصدر بياناً أعلن فيه سحب ترشِّحه للمنصب.
لم تقتنع «السفارة» بالبيان الرسمي، لذلك طُلِبَ منه الظهور علناً أمام وسائل
الإعلام. وفعلَ بالضبط ما طُلِبَ مِنْهُ.
قبل ذلك طالبَ السيد علي السيستاني
جِهاراً بأن يسحب المالكي ترشيحه للمنصب المذكور، إلا أن المالكي أبى الانصياع
لطلب السيستاني وصرنا نسمع أصواتاً (من أنصار المالكي) يستنكرون «تدخّل السيستاني
في شؤون العراق السياسية وأن المرجع ينبغي أن يشغل نفسه بالشؤون الدينية فحسب».
لذلك كان تدخل السفارة في محلّه.
غادر نوري المالكي منصب رئيس الوزراء بنفس
حصيلة صدام حسين: ملايين إضافية من الضحايا والأيتام والأرامل وفقر وهزيمة واحتلال
وخراب وخزينة خاوية لا تسد رمق العراقيين ولا تكفي لإعادة بناء الجيش وتسليحه
لاستعادة الأرض السليبة وتحرير الجماهير القابعة تحت نير احتلال «داعش».
لم يُحاسَب أي من المسؤولين السياسيين
أو القادة العسكريين على استيلاء «داعش» على أكثر من ثلث مساحة العراق وعلى آلاف
الضحايا الذين قُتِلوا بدم بارد في نينوى وصلاح الدين. أما نوري المالكي، فعُوقِبَ
بتوليته منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية.
لم يقفز حزب الدعوة ونوري المالكي إلى السلطة
بانقلاب عسكري، بل عبر انتخابات جماهيرية جرت منذ 2005. لكن «الحصول على ملايين
الأصوات التي توافق أن 2+2 تساوي خمسة لا يجعل المعادلة صحيحة» كما يقول فيكتور
هوغو في ديوانه «نابليون الصغير» [3]. يملك هوغو كل الحقِّ في ما ذهب إليه، فحصيلة
المالكي [الديمقراطي] أسوأ بكثير ممن أتوا عبر الانقلابات والمؤامرات. وهذا ديدنُ
العراق منذ أمد بعيد، على الأقل خلال السِتّين سنة الماضية، بالانتقال من سيء إلى
أسوأ. ورغم ظلم حكامنا، الراحلين والأحياء، وفشلهم وضحالة أدائهم، فإنّ لكل واحد
منهم جمهور عريض يتجاوز الملايين.
حين يُسْأَلُ المالكي عن أهم منجزاته،
يذكُرُ أمرين لا ثالث لهما؛ تنفيذ حكم الاعدام بصدام حسين وإنهاء الوجود الأمريكي
(العسكري) في العراق. لقد تسبب قراره الأخير بأن ترك الأمريكان العراق دون قوة
جوية ووسائل رصد ودفاع جوي وقوة بحرية وأجهزة استخبارات. قادرة على مواجهة قوى
التمرد والإرهاب المتربصة بالبلد. وبمجرد مغادرة الأمريكان، سقطت أجزاء مهمة من
صحراء الأنبار بأيدي تنظيم القاعدة الذي تحوّلَ إلى «داعش». ثم استولى تدريجياً
على قرى وبلدات وأحياء داخل المدن الكبيرة.
كان يمكن تقليل عواقب الإنهاء المُرْتَجَل
للوجود الأمريكي لو أن المالكي جعل منه مناسبة لجمع أبناء الشعب وتوحيده. لكنّه
فعل العكس تماماً كما أسلفنا. و«إذا كان الاحتلال الأمريكي استدعى تنظيم القاعدة
للعراق، فإنَّ الانسحاب الأمريكي غير المدروس الذي تسبب به المالكي استدعى داعش
إلى أرض العراق».
إنّ حصيلة حكم نوري المالكي، مثلها مثل
سنوات صدام، مُرّةٌ بطعم العلقم، بل هي أقسى وأشد مرارة وهَوْلاً من سنوات الأخير.
يقول يفغيني زامياتين [4] في كتابه «نحن»: «جَرِّبْ فقط أن تعطي قرداً كتاباً وسترى كيف
سيفسده على الفور، وكيف سيمزّقه إرباً».
الهوامش:
[1] فساد الموظفين الصغار – احمد هاشم
الحبوبي
[2] غزوة «قهــر الطواغيت»..خاتمة خطة
«هدم الاسوار» - احمد هاشم الحبوبي
[3] «مأساة السادات ملهاة مرسي: تشريح
مختصر لرئيس إخواني». يوسف دعنا. صحيفة الأخبار اللبنانية، 28 حزيران 2013.
[4] يفغيني ايفانوفيتش زامياتين (1884 - 1937): صحفي وروائي روسي اشتهر بروايات الخيال العلمي والنقد السياسي. ومن أبرز أعماله رواية "نحن" (1921) التي تدور أحداثها في المستقبل في دولة بوليسية فاسدة. وقد حظرت هيئة الرقابة السوفيتية الرواية، الأمر الذي اضطره لتهريب الرواية لنشرها في الغرب [المصدر: ويكيبيديا).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق