فتيات «جهاد النكاح» الأوروبيات
حين يبحث المرء قضية لها جذر أو عنوان
ديني، يعمل القارئ ما بوسعه لكشف دين هذا الباحث ومذهبه، وإذا تعذّر ذلك، فيُصبح
محتوى البحث هو المؤشر المُعْتَـمَد، فإذا انتقد «جهاد النكاح»، فهو شيعي، وإذا
انتقد «زواج المتعة»، فهو سُنّي. أمّا إذا انتقد الإثنين معاً، فلا دين له،
وسيحاربه الطرفان.
كما يعاني الكاتِب من مشكلة «الموضوعية»
التي يحددها القارئ على هواه، فهو ينتظر من الكاتب «الموضوعي» الذي ينتقد «جهاد
النكاح» أن ينتقد «زواج المُتعة»، وإذا انتقد المملكة العربية السعودية، فعليه أن
يعرّج نحو إيران، وإلاّ فَقَدَ حيادَه وموضوعيته.
إنّ هذه المزدوجات المفروضة تثقل
كاهل الكاتب وتمنعه من التعمق في شأن ما بحدِّ ذاتِه.
وقد حصل هذا معي في مقالي الأول: «جهاد
النكاح .. القصة من البداية»، فلم يخْلُ تعليق واحد من التعليقات التي وردتني
من التذكير بتلك الثنائيات، والارتكاز عليها لتبرير ما يفعله الآخر، فقد رفض بعض
القراء اعتراضي على «جهاد النكاح» وطالبوني بعدم الاعتراض عليه طالما أنّ الشيعة
يجيزون «زواج المتعة». (وطبعاً من غير المنطقي أنْ يُبَرَّرَ «جهاد النكاح» بـ«زواج
المتعة» الذي تحرمه كل مذاهب أهل السنّة، وهو أحد أهم مآخذهم على الشيعة). كما لمَّحَ
بعض آخر بأنّ حال المسلمين من بعضه، فلكلِّ طرفٍ زواجه. ولا داعي لذكر الشتائم
المتبادلة بين المتحاورين، فهذا أمرٌ اعتاد عليه متحاوري مدرسة «فيصل القاسم» [1].
لهذا سأكملُ بحثي لظاهرة «جهاد
النكاح» دون غيرها لأنّها هي موضوعي الأساسي ولن أقول في «زواج المتعة» سوى
التالي: إنّ هذا الزواج ليس ظاهرة مُتَفَشِّية بين الشيعة، ولا أحد منهم يتمنى
لقريبته أن تمارسه، ولكنّه موجود.
إنّ الإفتاءَ ليسَ مِنْ اختصاصي،
ولكنّي أستطيع أن أقولَ أنّ هناك حدود واضحة لا لبس فيها منصوص عليها في القرآن
الكريم لا تطبقها الغالبية الساحقة من بلدان المسلمين كقطع يد السارق وقطع يد
ورِجل قاطع الطريق. وكذلك القصاص من القاتل بالقتل، والذي يفقأ عين غيره تُفقأ
عينه، والذي يَقطع أذن غيره تُقطع أذنه. ولكن ما مِنْ دولة تقيمُ هذه الحدود
بحذافيرها سوى المملكة العربية السعودية التي تُطبِّقُها بمنتهى التأنّي والترّوي
لتفادي الخطأ وبعد استنفاذ كل فرص الصلح والعفو. أمّا المسرفين في تطبيق تلك
الحدود فهي التنظيمات الدموية كـ«طالبان» و«القاعدة» و«داعش». وهذه تنظيمات وليست
دول ذات سيادة.
بوضوح أكثر: هناك حدود ومُباحات يتم
تجاوزها مع تغيّر الأزمان والمجتمعات والمفاهيم. وهذا الأمر حصل وسيحصل على
الدوام.
وعودة إلى موضوعنا الأصلي، فرغم
افتضاح «جهاد النكاح» والتنديد به من كل المذاهب والمِلل، إلاّ أن قوافل
المُتَبَرِّعات تترى من كلِّ أنحاء المعمورة، حيث هَبّت الفتيات الشابّات مِنْ
كلِّ قارات الأرض، وخاصة أوروبا، للجهاد بأجسادِهِن، كزوجات متنقلات بين مقاتلي «داعش»
أو عبر ممارسة «جهاد النكاح».
وقد كشفت صحيفة المشرق العراقية أن
شرطة عراقيين عثروا في الحاسبة الشخصية لقاضي تنظيم «داعش» في مدينة بيجي ـ محافظة
صلاح الدين العراقية على عقود زواج فتيات أجنبيات تزوجن خمس عشرة مرة خلال سنة
واحدة، دون مراعاة فترة العدّة الواجبة شرعاً على المُطَلّقة والأرملة [2]. ولا
أجدني مضطراً لإثبات ما يسهل اثباته عبر آلاف الشهادات المثوَثّقة بالصوت والصورة
التي تزخر بها المواقع الالكترونية الرصينة.
من خلال تقارير وسائل الإعلام
المقروءة والمرئية التي حَقّقَت في ملف الفتياتِ الجهاديات القادماتِ من أوروبا،
يمكن أنْ تُسْتَشَفُّ الملاحظات التالية:
1) إنهنّ التَحَقْنَ انطلاقا من قناعتهن الشخصية، بدون
أي قسر أو مُقابِلٍ أو إغراءٍ مادي كما حصلَ مع قسمٍ لا يستهان به من المتطوعات
التونسيات والسوريات [3]، وتكفَّلن بأنفسهن بكل مصاريف السفر، حاملات معهن كل ما
يملكن للتبرع به للتنظيم.
2) غالبيتهن الساحقة فتيات وشابات متعلمات في
المرحلة الثانوية والجامعية.
3) غالبيتهن الساحقة من مواليد الدول الأوروبية التي
قدمن منها، وينحدرن من أصول آسيوية وأفريقية.
4) سفرهن يكون بشكل منفرد أو جماعات مختلطة مع
زملائهن أو أقربائهن.
5) أغلبهن دميمات أو قليلات الجمال، بالذات
الباكستانيات والبنغاليات والصوماليات والمتحدرات من دول المغرب العربي.
6) أعدادهن تتزايد على الرغم من الرقابة الأمنية
والضغوطات الأوروبية على تركيا لردعها عن تسهيل انتقالهن إلى سوريا [4].
وكشفت هجرة جهاديات وجهاديي أوروبا
المتصاعدة عن خلل بنيوي في المجتمعات التي قدموا منها، فالمهاجرون يعيشون في
مجتمعات متوازية لم تتوفر على أي اندماج بينهم وبين المجتمع الأكبر فبقوا يتوارثون
أحقاد الآباء والأجداد البعيدة عن روح أوروبا التي ترعرعوا بين أحضانها، وأن هؤلاء
الشابات والشباب على أهبة الاستعداد لتلبية أية نداء مغلَّفٍ بإطار ديني، حتى لو
كانَ دنيئا.
ولا يجوز أنْ ننسى المفعول الأزلي
للفتوى وثقافة الكره التي يتوارثها المتعصبون مِن جيل إلى جيل. وكم اضْطُهِدَ
وقُتِلَ أناس لانتمائهم الديني والمذهبي الذي ورثوه عن آبائهم حتى لو كانوا لا
يكترثون له أو يؤمنون به.
أما الأمر الهام الآخر فهو العُمر
والافتقار للجمال، فهنّ شابات في ريعان الشباب ولكن لا يتوفرن على نفس جمال الفتيات
المحيطات بهن في البلدان التي يعشن فيها، الأمر الذي يسمح للمتقصي أن يبررَ التحاق
بعضهن بالدافعَ الجنسي، تعويضاً عن انعدام فرص الزواج والصداقة، ليتزوجن هناك
بمقاتلين تعرفن عليهم في وسائل التواصل الاجتماعي أو من خلال زميلات وصديقات لهن
سافرن قبلهن. وهذا مبحث ينبغي أنْ يتصدى له محللون نفسيون لديهم احصاءات
واستبيانات كافية.
لا أريد الإيحاء بأن فتيات «داعش»
جئن لممارسة الجنس المُسرِف فحسب، فهذا ينطبق على قسم منهن، وهنّ موضوع مقالي.
ولكن مهما تعددت الأسباب، فإنهنّ جميعاً لَسْن مِنْ جِنْسِ أمّنا حوّاء.. أم كل
البشر.
هل توقّف جنون الدواعش والداعشيات
عند «جهاد النكاح»؟
الجواب، للأسف، لا. فبعد أنْ فرضوا
سيطرتهم على مناطق واسعة في العراق وسوريا، ارتكبوا شنائع وفضائع تكاد مِنْ شِدّةِ
هولِها أنْ تُنْسينا «جهاد النكاح»، رغم أنّها امتداد له. وهذه الفضائع سنبحثها في
موضع آخر.
الهوامش:
[1] فيصل القاسم هو مقدم برنامج «الاتجاه
المعاكس» في قناة الجزيرة القَطَريّة. وهو معتاد على تسخين حدة النقاش بين
ضَيْفَيْه إلى أن ينتهي الأمر بهما الى تبادل الشتائم واللكمات والتراشق بكؤوس
الماء البارد. عندها ينتشي «فيصل القاسم» وتنفرج أساريره معلناً بلوغه ذروة
سعادته.
[2] صحيفة المشرق العراقية، العدد 2243
في 28 حزيران 2015.
[3] لمزيد من التفاصيل يرجى قراءة
المقال التالي: «جهاد النكاح .. القصة من البداية»، بقلم كاتب هذه السطور، على
الرابط التالي:
[4] الموقع الالكتروني لجريدة القدس
العربي، في 29 حزيران 2015، المقال منشور بتاريخ 5 نيسان 2015.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق