السعودية وإيران ... فِيلان في سوق الفخار
أحمد هاشم الحبوبي
في العاشرِ من تشرين الثاني
في عام 2013، كُشِفَ النقاب عن المفاوضات السرية الأمريكية – الإيرانية التي جرت
في سلطنة عمان. منذ ذلك الحين انقلب سلوك إدارة المملكة السعودية رأسًا على عقِب،
مِن إدارة رصينة هادئة تنأى بنفسها عن التراشق الإعلامي، الى إدارة ارتجالية
عدوانية صاخبة.
وقد سبق هذه الصدمة بأكثر
مِنْ شهريْن، خذلانٌ أمريكي ليْس أقلّ وقعًا، تَمَّثَلَ في تراجع الولايات المتحدة
الأمريكية عن توجيه ضربة عسكرية ساحقة للدولة السورية كانَ قد هلّلَ لها السعوديون
وكانوا على يقينٍ من حصولها قياساً على الأحداث المُماثِلة.
إنّ هذيْنِ الأمريْنِ لم
يأتِيا ضمن السياق، فالمعتاد هو التقاء المصالح الأمريكية - السعودية طوال فترة
الحلف المقدس الذي يربط بينهما، فقد كانا معاً ضد مصر جمال عبد الناصر، وضد
الاتحاد السوفيتي قبل وأثناء وبعد غزوه لأفغانستان، وضد إيران الخميني اثناء الحرب
العراقية - الإيرانية، ثم ضد صدام حسين بعد احتلاله الكويت حتى اسقاط نظامه
واحتلال أمريكا لكامل التراب العراقي وتنصيب مواطن أمريكي حاكما أوحدا على العراق.
لقد أيقنتِ السعودية أنّ هناك
توجه أمريكي، مبني على مصالح أمريكية صرفة، يرفض (ولو مؤقتًا) مزيدا من الحرائق في
المنطقة المحترقة أصلا منذُ خلقَ الله الإنسان. إنَّ هذا القرار لا يتفق مع هدف
اسقاط النظام السوري الذي الزمت الادارة السعودية نفسها به.
رغم دلالاتِ هذيْنِ
الحدثيْن، والتصريحات النارية التي جاءت على لسان عميد الدبلوماسية السعودية
الوزير الراحل سعود الفيصل صاحب «رقبة البعير» الذي كان يحسب كلماته جيدًا، عضَّ
السعوديون على كرامتهم المجروحة مؤمنين بضرورة الحفاظ على أفضل العلاقات بين
البلديْن. وهذا نهجٌ اعتادته الإدارة السعودية، ولكن، مع رحيل الملك عبد الله عبد
العزيز، اختار الملك الجديد سلمان عبد العزيز سياسة التصعيد والمواجهة المباشرة،
دون الاعتماد على حليف أو وكيل. والذي ضاعفَ الهياج السعودي، فهو الضغط الإيراني
في جبهة اليمن سعياً للمقايضة والتخفيف عن جبهة سوريا. لقد قررت الإدارة الإيرانية
التي تطلُّ على مضيق هرمز، أن تمارسَ «خنقاً افتراضياً» إضافياً على السعودية عبر تهديد
مضيق باب المندب الذي يسيطر على البحر الأحمر من الجنوب. والمُراد بتعبير «الخنق
الافتراضي»، أنه لا إيران ولا أية قوة اقليمية قادرة على اغلاق هذين المضيقين
الستراتيجييْن إقليميًا وعربيًا وقاريًا وعالميًا. لكن هذا لا يعني أن على
السعودية ان تتكل على هذا التحليل المباشر والافتراضي، فليس هكذا تُصانُ مصالح
وسيادة الدول. لذلك جاء الردّ السعودي فوريًا ومباشرًا هذه المرة، دون الاعتماد
على وكيلٍ أو صديق، كما هو معتاد، بل هاجمتِ اليمنَ بقواتها الجوية والبحرية في
حملة مستمرة منذ الخامس والعشرين من آذار عام 2015.
تجري المواجهات السعودية –
الإيرانية تحت عنوان مذهبي على أرض عربية. لم تطلق خلالها ولو رصاصة واحدة نحو البلديْن
(رغم أن نيران حرب اليمن طالت بعض المدن الحدودية السعودية).
وإذا حسبنا الخسائر
والأرباح من وجهة نظر عربية ـــ إيرانية، فإنّ الخاسرَ الأكبرَ هم العرب، وإذا
بدأنا العدّ من 9 نيسان 2003، فنحن أمام ملايين الضحايا العرب كقتلى وجرحى
ومشردين. مقابل ذلك لم تخسر إيران ما كانت تخسره في مواجهة واحدة في حربها مع
العراق (1980 – 1988). أما على الصعيد المادي، فخسارة العرب تجاوزت ترليونات من الدولارات
الأمريكية (الترليون = الف مليار دولار)، بينما لا تتعدى المصروفات الإيرانية بضع
عشرات المليارات، وربما أقل. وقد كسبت نفوذاً ساحقاً تعادل قيمته أضعاف تكاليفه. لا
يراد من هذه المقارنة الدفاع عن ايران أو تعزيز روح الهزيمة في العرب، لكن هذه هي
الحقيقة.
وإذا حسبنا الخسائر البشرية
والمادية على أساس طائفي، فخسائر العرب السُنّة تبلغ أضعاف مضاعفة مُقارَنَةً
بخسائر العرب الشيعة. لقد مُحِيَتْ مدنٌ وأحياء وبُنى تحتية في تكريت وبيجي
والرمادي في العراق. وستواجه الموصل والفلوجة نفس المصير، هذا إذا جرت الأمور على
نفس المنوال. وسيدوم خرابها طويلا، فإعمارها يستلزمُ عشرات مليارات الدولارات التي
ليس بإمكان الحكومة العراقية المفلسة تأمينها، لا على المدى المنظور أو البعيد.
وحين نعدد الخسائر في
العراق وسوريا فلا بدّ أن نذكر خسائر الأقليات غير المسلمة من اليزيديين الذين قتل
منهم الآلاف وسبيت نساؤهم وبناتهم وهدمت مدنهم، وكذلك حال المسيحيين الذين هجروا
أرض أجدادهم إلى غير رجعة. وكذلك الصابئة الذين توزعوا على أنحاء الأرض.
إنَّ تصنيف الخسائر المادية
والبشرية لوطن ما على أساس ديني أومذهبي عَمَلٌ غير واقعي، فالوطن كالجسد الحي
الغير قابل للانشطار الذي تترابط أعضاؤه ترابطا وجوديا. فالضرر الذي يقع على طرف
فيه سيصيب بقية الأنحاء بنفس القدر من الضرر، كما هو حاصل في العراق وسوريا.
لقد تضاءلت كل الانتماءات
أمام الانتماء المذهبي الذي احتل المرتبة الأولى، ليأتي بعده الانتماء الديني
والقومي والوطني. وسلَّمَ المسلمون بقطبية إيران والسعودية، يدين للأولى شيعة
العرب والعالم، وللثانية كل السُنَّة. مع فارق كبير في التكاليف المادية والبشرية
التي تكبدها الجانبان السعودي والإيراني كما هو مُبَيَّن. ويرى السياسي العراقي إياد
جمال الدين في هذا الاستقطاب مصدر تهديد جدي لمفهوم الدولة الوطنية وحدود دول
الشرق الأوسط التي رسمتها معاهدة سايكس ـــ بيكو، وبانهيار مفهوم الولاء للوطن.
ويتساءل المرءُ إنْ كانَ
بإمكان السعودية أن تغير في المشهد شيئا، فبالتأكيد نعم. لو أرادت. لقد استطاعت
السعودية أن تفرض إرادتها على مجريات الاحداث في مصر بعد عزل محمد مرسي عن رئاسة
مصر بواسطة الجيش المصري ، حيثُ وقفت الادارة السعودية بكامل ثقلها لدعم وتعزيز
استقرار مصر. وفرضت رؤيتها على كل العالم، بالذات الولايات المتحدة وأوروبا. كما
قدمت وما زالت تقدم الدعم الاقتصادي القوي لمصر. هذه الأموال ما كانت لتجدي نفعا
لو أنها تأخرت أو مُنِحَت لإصلاح الخراب الذي كان ستحدثه المواجهة بين الدولة
المصرية والإسلاميين.
وبصراحة فإنّ الصراعات
الدينية تعطِّل العقل والمنطق وتروج للكره والفرقة. يقول المفكر السعودي تركي
الحمد إن «الجرعة الدينية الزائدة تقتل، مثل جرعة الدواء الزائدة»، ويضيف موضحًا «
عندما نجد خريج جامعة دكتور ويصرح وينكر دوران الأرض حول نفسها، كيف أصبح هذا
أستاذًا جامعيًا وهو يفتقد أبجديات المعرفة، وعندما يأتي حديث من شيخ رسمي ويكرر
في كل لقاء أن الأرض ثابتة ولا تتحرك! هل هذا اسلام؟ والمضحك المبكي أن علماء
المسلمين قبل ألف عام اكتشفوا أن الأرض كروية، بل وصل بالبعض أن يُكَفِّر من يرى
ضرر شرب بول الإبل!».
لم يسفر الصدام السعودي –
الإيراني عن شيء ذي فائدة سواء للشيعة أو للسُنّة أو للأقليات الدينية والعرقية في
العراق وسوريا ولبنان والبحريْن واليمن. ويمكن الادِّعاء بأنَّ العربَ المسلمين هم
الأشدّ تضررا.
يتصرفُ البلدان (السعودية
وإيران) مثل فِيلَيْنِ في سوق الفخار؛ لا يمكن أنْ ينتجَ حضورهما شيئا مفيداً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق