احمد هاشم الحبوبي |
أسوة بباقي البقع الجغرافية تتداخل
أمم الشرق الأوسط فيما بينها إلى حد كبير. وهذا لا ينفي حقيقة أن لكل بلد هويته
الخاصة وأدائه التاريخي ومنجزه الحضاري. وحتى هذا متداخل بشكل كبير، فقواعد اللغة
العربية (التي يتحدث بها أكثر من أربعمئة مليون عربي) وضعها الإيراني الفارسي
سيبويه. واستمر الحال قرون عديدة، علماء من أقاليم عديدة تتبع الدولة الإسلامية
يكتشفون ويبحثون ويبتكرون، ليطوب كل هذا النتاج الحضاري العظيم باسم الدولة
العباسية التي عاصمتها بغداد.
يعترض البعضُ على الاستئناس بتجارب
الأمم الأخرى أو استعارتها والاقتداء بها. ويضعون (البعض) شروطاً قاسية لمثل هكذا
اقتباسات. لكنّ ذلك لم يعد يتناسب مع مفهوم «المعرفة الرقمية» التي قرّبَت
المسافات وأزاحت الكثير من عوائق الاحتكاك الحضاري الفعال بين الأفراد على الأقل.
إنّ غوغل (GOOGLE) ويوتيوب (YOUTUBE) ومواقع التواصل الاجتماعي
(SOCIAL MEDIA) موسوعات مُحَدّثة وبالغة
الضخامة وشبه مجانية تتولى تنسيق توزيع المعرفة والخبرة وكسر حاجز اللغة بفضل توفر
خدمات الترجمة الفورية، رغم أن الترجمة إلى العربية في بدايتها.
أسوق هذه المقدمة الطويلة كبادئة
للتحدث عن بعض التجارب السياسية في السويد، فأسبقُ قولَ أحدهم: "هكذا تريد
القفز بنا من العراق إلى السويد بلد الرُقي والسلام والديمقراطية
والنزاهة؟؟!!". والجواب هو نعم. لأن المرء يقتدي بالنماذج الناجحة. أما أؤلئك
الذين يريدون السير بالمجتمع على طريقة التطور التقليدي الساذج فلا ينبغي الوقوف
عندهم. إن قارة آسيا حافلة بالتجارب الناجحة مثل ماليزيا وسنغافورة وكوريا
الجنوبية وحتى الشمالية التي استثمرت في التعليم وفي الاستفادة من تجارب وخبرات
الأمم الناجحة والمتقدمة واصبحت في مصافها.
إنّ رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي
ورئيس الوزراء السويدي ستيفان لوفين (Stefan Löfven) لا يحمل سوى شهادة الدراسة الأساسية (الدراسة الابتدائية
والمتوسطة لمدة تسع سنوات) وإجازة ممارسة مهنة اللحام. هو درس سنتين في المرحلة
الثانوية وسنة ونصف في المرحلة الجامعية، إلا أنه ترك مقاعد الدراسة بإرادته بما
لم يؤهله الحصول على الشهادة النهائية. وقد تأكدتُ من ذلك عبر موقع رئيس الوزراء
الرسمي [1]. بدأ لوفين حياته المهنية بالعمل في البريد (1976) ثم في تقطيع الخشب
(1979)، ثم في اللحام (1979 – 1995). وقد مارس العمل النقابي أثناء ذلك وبعده. ثم
تدرج في العمل الحزبي ضمن صفوف الحزب الاشتراكي الديمقراطي، أكبر أحزاب السويد، واختير
زعيماً للحزب (منذ 27 كانون الثاني 2012) ثم اختير رئيساً للوزراء (منذ 2 تشرين
الأول 2014). وسيخوض انتخابات أيلول 2018 للاستمرار في منصبه.
تحققت العدد من الانجازات المهمة في
عهد ستيفان لوفين (المولود في 21 حزيران 1957) بما يؤكد أنّ التحصيل الدراسي
العالي ليس شرطاً أساسياً لرئيس وزراء يمتلك مشروعاً ناجحاً. والسبب في ذلك أن
المشروع السياسي هو حصيلة رؤية مؤسساتية لا يصنعها رئيس الوزراء بمفرده. نعم،
لرئيس الوزراء لمسته الخاصة وأسلوبه ووتيرته في تحقيق الأهداف المرسومة لكن ليس
بعيداً عن رقابة وإشراف ودعم مجلس النوّاب ككل والأغلبية الحاكمة على وجه الخصوص.
ولا يمثل التحصيل الدراسي شرطاً
للترشح لعضوية مجلس النواب السويدي [2] ولم أسمع أو أقرأ يوماً أن سياسياً سويدياً
انتقص من قدرات زميل له بسبب ضآلة تحصيله الدراسي. علماً أنّ نسبة الأمية تقارب
الصفر بالمئة وأن التعليم مجانيٌ بكافة مراحله ويكلّف الميزانية أكثر من خمسة
وعشرين مليار دولار (6.8% من الناتج المحلي) [3][4]. وأكثر من ربع السويديين
والمقيمين بين أعمار (25 – 64) لديهم تعليم عالٍ [5].
إنّ الناخب السويدي ينتخب بناء على
برنامج الحزب قبل كل شيء، ليس على شهادة زعيم الحزب أو المُرَّشَح. إن الشهادة
والتعليم أمران مهمان لكنهما لا يصنعان القائد والمشروع السياسي الناجح، فالشخص
يجب أن يكون أهلاً لموقع القيادة. أما المشروع السياسي فتصنعه لجان مختصة تتوفر
على أعلى درجات الخبرة والمعرفة الأكاديمية.
يلاحظُ في العراق ارتفاع مستوى
التحصيل الدراسي للطبقة السياسية العراقية العليا من رؤساء الوزارات والوزارات
وكبار المدراء. لكن ليس هناك أي انعكاس إيجابي لذلك على أدائهم، فالمسؤولون فاشلون
يتوارثون (أو يتبادلون) رئاسة مؤسسات فاشلة تفتقر للتخطيط العلمي القريب أو البعيد
المدى. أما مسؤولي الخط الثاني من نوّاب ومدراء آخرين فيصح تسمية شهاداتهم
بـ«شهادات الزينة» التي تضرّ أكثر مما تنفع، فهي إما مزورة أو مشتراة مقابل ثمن من
جامعات ومعاهد هزيلة، حتى تلك الأوروبية.
اثنان من رؤساء الوزارة كانا طبيبن،
إياد علاوي وإبراهيم الجعفري، لكنهما لم يقدما أي شيء يذكر للقطاع الطبي (وللإنصاف
نذكر بقصر مدة توليهما للمنصب) بل لم يحافظا على المستوى السابق لهذا القطاع.
وكذلك الحال مع نوري المالكي (ماجستير آداب) الذي لم ينهض بمستوى التعليم الأساسي
والثانوي والمهني. ولم يشكل حيدر العبادي (دكتوراه في الهندسة) استثناء عن سابقيه،
حيث أنهى عهده الوزاري دون أي دعم بارز للقطاعات المذكورة أو لقطاع الصناعة أو
الاتصالات.
وأودّ أن أختم بحسين الشهرستاني،
عالم الذرّة الذي تعهد بتحقيق الاكتفاء الذاتي في انتاج الطاقة الكهربائية وتصدير
الباقي للدول المجاورة بحلول نهاية 2013. ومضت الأيام دون أن يفي الشهرستاني بوعده
وأهدر سبعة وعشرين مليار دولار. إنّ من يقرأ سيرته النضالية والأكاديمية يتصور أن
القنبلة الذرية العراقية كانت متوقفة على مشاركته في مشروعها. لكن الأيام أثبتت
أنه ليس سوى كذاب مُدّعٍ فاشل.
إذا ما قارنّا حصيلة سياسيي العراق
مع أقرانهم السويديين سنجد الفارق كبيراً جداً. فالعراق مازال يحلم بالعودة إلى
مستويات ثمانينيات القرن الماضي، بينما السويد تحث الخطى لتعزز مقعدها الدائم في
مصاف الدول الديمقراطية المتقدمة ذات العيش الرغيد. إنّ الاقتباس من تجارب الشعوب
الأخرى أمر حيوي حصلَ ويحصل تلقائياً منذ آلاف السنين، سعياً لاختصار مسيرة الوصول
إلى مجتمع الرخاء والعيش الآمِن.
المصادر والمراجع:
[1] السيرة الذاتية لستيفان لوفين
(موقع رئاسة الوزراء):
http://www.regeringen.se/sveriges-regering/statsradsberedningen/stefan-lofven/cv-stefan-lofven/
[2] للاطلاع على تفاصيل أكثر راجع
موقع البرلمان السويدي:
http://www.riksdagen.se/sv/sa-funkar-riksdagen/demokrati/val-till-riksdagen/
[3] السويد في موقع ويكيبيديا، بالعربية:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%8A%D8%AF
[4] السويد في موقع ويكيبيديا،
باللغة السويدية:
https://sv.wikipedia.org/wiki/Sverige
[5] المركز الإحصائي السويدي:
http://www.scb.se/hitta-statistik/statistik-efter-amne/utbildning-och-forskning/befolkningens-utbildning/befolkningens-utbildning/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق