سمسرة وبغاء في
بغداد
احمد هاشم الحبوبي |
جاوزت الساعة الحادية عشرة ليلاً وما
زال زحام السيارات على أشده في كل شوارع المنصور، فالأمن مستتب والناس اعتادوا
الخروج مساء أو بعد غروب شمس تموز القاهرة. وقد استغربتُ شدة الازدحام لأنه كان
أشد من أوقات الذروة في أيام الذروة (بين السابعة والحادية عشرة مساء الخميس أو
أيام المناسبات). لكن الشخص الذي كان برفقتي بدد استغرابي موضحاً بأنّ الركن
المجاور لمول المنصور يتحول إلى سوق لتجارة البغاء بعد الساعة العاشرة من مساء كل
يوم. وقد تأكدتُ من ذلك بأمّ عيني، فهذا يتحاور راجلاً مع هذه، وذاك مع تلك عبر
زجاج سيارته غير عابئ بصف السيارات الطويل الذي ينتظر خلفه، وآخريْن تركا سيارتهما
في الشارع وانهمكا في التفاوض مع فتاة شابة أسرفت في إظهار مفاتنها أملاً في تحقيق
"وضع تفاوضيٍ أفضل".
بعد أن تقدمنا بضع عشرات من الأمتار
هالني منظر لم أر مثله من قبل؛ فتيات بأعمارٍ مبكرةٍ جداً جالسات على مصطبة يجري
التفاوض على أثمان مضاجعتهن بين رجال بالغين وقوّاد يجلس بقربهن. الثمن يتحدد
وفقاً لنوع الخدمة المطلوبة، فثمن المضاجعة الفورية التي تجري في شقتيْن من شقق
البناية المقابلة أقل من ثمن ذهاب الفتاة مع الزبون. ولا أدري ما هي الضمانات التي
يجب أن يقدمها الزبون للقوّاد حتى يسمح له باصطحاب الفتاة. الشيء الذي فاجأني هو
عدم اكتراث الفتيات الصغيرات وانهماكهن في حوارات ضاحكة فيما بينهن.
لا ينتهي الأمر في هذه البقعة فحسب،
فالشوارع المحيطة بحي المنصور مكتظة ببيوت السمسرة والبغاء العلنية. وإذا ما بدأ
المرء بالشارع الواصل بين ساحتي «أبو جعفر المنصور، مؤسس مدينة بغداد» و«14 رمضان»
ستطالعه كافيهات عديدة مُعَلَّمَة بنشرات ضوئية وعناوين معروفة للجمهور، بعضها
يقابل مدرسة متوسطة وبعضها يجاور جامع أو بيت سكني أو مطعم، لا ضير في ذلك،
فالاندماج وتقبل الآخر يبدو في أحسن أحواله. القاسم المشترك بين هذه الكافيهات أن
التي تخدم الزبون امرأة بوظيفة مزدوجة؛ «نادلة وربما بغي». وهذا أمر فيه إساءة
كبيرة للمرأة العاملة التي اثبتت جدارة تامة في كافة ميادين العمل، في حين أن هذه
الأماكن لا تقدم المرأة إلا كجسد يتم التفاوض على ثمن انتهاكه على رؤوس الأشهاد.
الحال من بعضه في الشارع الرابط بين
تقاطع مرطبات الرواد وتقاطع المنصور الرئيسي، ففي الشارع المقابل لمعرض شوكولاتة
الخاصكي يطالعك كافيه «القشلة» الذي يقوم بجذب الزبائن من خلال عرض بضاعته في
الشارع مباشرة، حيث تجلس بضعة نساء «لابسات من غير هدوم» على مصطبة في الرصيف.
والتفاوض على الثمن يجري في الشارع أيضاً. بالتأكيد ليست المنصور وحدها التي تزدهر
بمحلات البغاء بهذه الكثرة والعشوائية والوقاحة، بل بغداد والعراق، بنفس المسميات
أو بأخرى. ولا بد من التنويه بأن بعض قاعات القمار الملحقة بالنوادي والنقابات
تشتمل على ركن مخصص للقوادة، فالنشاطيْن متلازمان بشكل تام.
في تسعينيات القرن الماضي استأجرت
امرأة بيتاً في حيّنا. وحالما باشرت «أم فلان»، هكذا كان يدعوها الناس، نشاطها
المزدوج بدأت الوفود تترى، وساءَ الجو في الحيّ وما عاد الوضع مريحاً. فاشتكى
الجيرانُ «أمَّ فلان» عند الشرطة وعند الأمن ولم ينفع. بعد ذلك اخبرت «أم فلان»
أحد سكان الحي بأنها أخذت علماً بالشكوى ونصحت المشتكين بالكف عن المحاولة لأنها
محمية من مسؤول كبير في الدولة لا أحد يقوى عليه. وقد صدقت «أم فلان» في ادعائها
لأن أحد المشتكين كان ضابط أمن بمنصب عالٍ. ولم يتم القضاء على بؤرة «أم فلان» إلا
بشكوى لدى جهاز الأمن الخاص، فانتقلت «أم فلان» واستعاد حيّنا هدوءه وسلامه. أذكر
هذا الحادثة كي أسعف أصحاب الذاكرة الضعيفة من جماعة «الزمن الجميل» الذين يسبغون
على العصر الغابر ما ليس فيه من عفة وكمال، ولأبين أن فساد الشرطة والأمن بات صفة
أصيلة في الجهازيْن بغَضِّ النظر عن طبيعة الحكم وشخص الحاكم. وللإنصاف، فإنّ عدد
كافيهات ومحلات الدعارة سابقا لا يقارن بأعدادها حالياً.
حين يقارن المرء بين زمنين، لا بدّ
له أن يأخذ كل المتغيرات بنظر الاعتبار. لذلك من الضروري جداً الإشارة للنمو
السكاني الحاصل في العراق، فأعداد العراقيين في ارتفاع مضطرد لا يتناسب مع حاجة
سوق العمل المنكمشة زراعياً وصناعياً، فالاقتصاد ريعي يعتمد على سلعة النفط فحسب،
والقطاعات الإنتاجية عاجزة عن منافسة المنتج الأجنبي بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة
وتقاعس الدولة عن دعم وحماية المنتج المحلي. كذلك وصلت المؤسسات الحكومية إلى درجة
الاشباع التام حتى ما عاد هناك محل لجلوس كل الموظفين. يضاف لعجز السوق المحلية عن
استيعاب الأيدي العاملة الراغبة بالعمل، صعوبة، وربما استحالة، تصدير هذه القوى
العاملة إلى الأسواق المجاورة بسبب افتقادها للمهارة العملية والنظرية وارتفاع
اجورها مقارنة بالعمالة الآسيوية. أما الاستثمار الأجنبي فموجّهٌ بشكل أساس نحو
المشاريع الاستهلاكية ذات المردود السريع كبناء المولات التجارية ومراكز الترفيه.
والأسباب معروفة طبعاً، فلا أحد يفكر بإقامة مشاريع في بيئة غير مستقرة ذات بنية
تحتية متهالكة.
إن ترف انتظار فرصة العمل المناسبة
غير متاح للجميع، فهناك أناس بحاجة ماسة لمورد مالي مستدام يقيمون به أوْدَهم.
خلف كافيهات السمسرة والبغاء
(وشبيهاتها من محلات المساج والحمامات الخاصة) تقف مافيا دعارة تحظى بتغطية تامة
من أجهزة الأمن (استخبارات، أمن، شرطة، جيش) واللجان الاقتصادية والأجنحة العسكرية
التابعة لتنظيمات سياسية متنفذة حكومياً واجتماعياً. هذه المؤسسات (نعم مؤسسات)
ترى في تلك الأنشطة مصدر آخر للموارد هي أحق الناس به. فوفقاً لقانون الفعالية (effectiveness) الذي ينصّ باختصار على أن
«القوة تصنع الأحقية، أي إن الحكم القهري لمجتمع ما، يمنحه سيطرة قانونية على
موارد هذا المجتمع "بشكل محق". ومن يستطيع أن يصبح حاكما قهريا يمكنه أن
يرسل الموارد عبر سلاسل البيع إلى المستهلكين، ويرسل المستهلكون بالمقابل الأموالَ
للفاعلين القهريين لتعزيز حفاظهم على السلطة» [1]. لذلك ليس هناك ما تخشاه مافيا
البغاء، فالماخور «الوقح» تحميه ميليشيات «وقحة» وجهات أمنية «وقحة».
ليس من الذكاء لأحدٍ المطالبة بإغلاق
هذه المحلات أو منع "أقدم مهنة في التاريخ"، فغيره كان أشطر. لكن ذلك لا
يبيح غض الطرف أو الصمت صوناً للعرض وسمعة البلد. لقد بات أمراً مُلِّحاً تنظيم
هذا النشاط المنفلت من أجل صحة المجتمع وسلامة الأجيال الصاعدة، فليس من الصحّي أن
تألَفَ عين الفتاة أو الفتى منظر ماخور «وقح» حيثما قلـّبا وجهيهما لتجنيبهما شراك
الغواية والاستدراج. وليس من الصحي ألا تخضع هذه الأماكن للرقابة الطبية المستمرة
كي لا تتحول إلى بؤر لانتقال الأمراض.
تتعامل دول الأوادم مع بيوت البغاء
بإحدى وسيلتين؛ إما بتشريع وجودها وتنظيم كافة أمورها الصحية والاجتماعية
والضريبية بالاعتماد على أجهزتها التنفيذية النزيهة والكفوءة والموثوقة، أو بتجريم
الدعارة وحظرها حظراً حقيقياً وفعالاً بالاعتماد على أجهزة الدولة التنفيذية النزيهة
والكفوءة والموثوقة، ذلك بالتوازي مع توفير نظام حماية اجتماعية يؤمن عيشاً كريماً
لكل أفراد المجتمع. عموماً لا تلجأ المرأة لامتهان البغاء إلا بعد انسداد كل سبل
الرزق الأخرى، لذلك تتولى سلطات هذه الدول (السويد والنرويج مثلاً) حماية وصيانة
كرامة المرأة والطفل [= الحلقة الأضعف] عبر تأمين سبل العيش الكريم لها. وإذا ما
اكتشفت الشرطة أن رجلاً ما مارس الجنس مع امرأة عبر الإغواء بالمال، فالرجل الذي
يحاسب (حساباً عسيراً) وليس المرأة. وأود التنويه بأن هذه التدابير لم تفضِ إلى
فرض سيطرة مطلقة على هذا النشاط، لكنه أمسى تحت السيطرة إلى حد كبير.
في العراق لا نتوفر على هذا ولا على
ذاك، رغم ما لدينا من قوانين وتشريعات وتحريمات. فهذه تصبح غير قابلة للتطبيق في
ظل أذرع تنفيذية ضعيفة وفاسدة وخسيسة. الدولة في عالمها الافتراضي تدّعي التزامها
بالأعراف والقيم والتعاليم الدينية والقوانين، إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك في العالم
الحقيقي، فالرشوة والتقصير وعدم اتقان العمل والتقصير فيه متفشية في المجتمع وأضحت
أمراضاً وبائية بالكاد ينجو المواطن من الإصابة بأحدها على الأقل.
ولتجنّب أي خلط في الأوراق، أشدد على
أنّ «الوقحين» الذين يحمون شبكات البغاء والقمار والمخدرات ويتخاذلون أمام إغراء
المال الحرام لا يمتّون بصلة لأولئك الأبطال الذين انتصروا على «داعش» ولملموا
أشلاء العراق وأعادوا للعراقي كرامته وكبريائه.
لكي يكون الحديث موضوعياً ومنتجاً،
لا بد له أن يتوفر على اقتراح حل، إلاً أنّ المشاكل كثيرة وكبيرة إلى حد تبدو فيه
الآفاق مسدودة. ولا يشاركني الجميع في تقييمي هذا؛ فحين ناقشتُ "انسداد
الآفاق" هذا مع سياسي عراقي مستقل وضليع في شؤون الوطن، أجابني بأن التغيير (نحو
الأحسن) حاصل لا محالة، لكن بدون ثورية، بل عبر التغيير التدريجي البطيء. إن هذه
الرؤيا الإيجابية فتحت أبواب الأمل أمامي من جديد. واستدركتُ محدثي بأن الأضرار
التي ستلحق بالمجتمع ستصبح غير قابلة للإصلاح بالتقادم. فأحالني محدثي لفكرة
«الباقة أو الحزمة المتكاملة» التي تقول إن الأمة حين تسير في درب الصلاح ستصلح
كلّها.
[1] النص مقتبس من لقاء أجراه المحرر
عبيدة عامر مع ليف وينر، مؤلف كتاب «نفط الدم». المقابلة منشورة على موقع قناة
الجزيرة القطرية تحت عنوان: «"ميدان" يحاور "ليف وينار": كيف
حكم وجود النفط بالإعدام على الشعوب العربية؟» (20/12/2018).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق