مقال منشور بتاريخ 21-01-2011، ولكن ما اشبه اليوم بالبارحة، فلا جديد تحت شمس بلادي.
بِغـَضِّ النظر عن كل ما قيل وما يقال، فإنّ نواب البرلمان هم صنيعة أناملنا
البنفسجية بالدرجة الأساس، وبالنتيجة، فالمسؤولون كذلك. ولكن ما إن يفوز المرشح
بمقعد نيابي، فإنّه ينعزل بصورة تامة عن ناخبيه ويتبرأ من وعوده التي اقسم بأغلظ
الإيمان على البـرِّ بها. وهو أمر كنا شبه متيقنين من انهم فاعلوه، ولكن كان
ديدننا المثل المصري القائل "امشِ وراء الكذاب لحد باب الدار".
بعد ان يفوز المرشح بمقعده النيابي، يتحول إلى مخلوق آخر لا يشبهنا، ويعيش في
أجواء جديدة نحن لا نتخيلها ولا نستوعبها. حيث ينتقل النائب إلى عالم جديد في
المنطقة الخضراء أو في مكان مؤمَّنٍ آخر، ويتكفل جيش من الموظفين والمرافقين
بتأمين راحته وخدماته والسهر على شؤون أسرته، ويحصل على منحة نقدية قدرها مائة
مليون دينار لتأثيث سكنه الجديد وشراء سيارة مصفحة، ويتمتع براتب خيالي لا يحتاج
الاّ القليل منه واقعيا بفعل توفر أغلب الخدمات مجانا. علما بأن النائب يتمتع بكل
امتيازات الوزير وحقوقه رغم ان مسؤولياته ليست بحجم مسؤوليات الوزير وواجباته.
لا أريد الإسهاب في سرد مزايا النائب ومزايا كل مسؤول في الدولة. ولكني أود ان
أوضح بأن منظومة الحكم تتكفل بإذابة القادم الجديد وتدخله ضمن فلكها عبر
"صعقه" بمزايا العالم الجديد الذي يستحيل مقاومة جاذبيته، عالم يتوفر
فيه الماء والكهرباء والوجه الحسن. وهذه أمور تخلو منها كل بقاع العراق الخَرِبَة
الأخرى. وأهم شروط دوام هذا العيش الرغيد هو ان يقدم الضيف الجديد فروض الولاء والطاعة
لأحد الصقور الذين يمسكون بزمام الأمور. وَلِلمسؤول من ساكِني المنطقة الخضراء أو
غيرها أن ينتقي السمين من مواد دستور العراق وقوانين مؤسسته التي تتعلق بحقوقه
وامتيازاته، ويترك الغث من المواد الأخرى المتعلقة بالواجبات. امّا إذا رفض أحدهم
هذا العرض فجزاؤه النفي الأبدي خارج جنان المنطقة الخضراء والحرمان من نِعَمِها،
ولكن بعد خمس سنوات من إحالته على التقاعد. امّا من ينصاعون، وهم كُثـُر، فيبقون
خالدين فيها ولهم أجر غير ممنون.
كل أبناء الطبقة الحاكمة انتقدوا وينتقدون الامتيازات والرواتب الضخمة التي
يتقاضونها، وتعهد أغلبهم بأن هذا الأمر سيكون ضمن أولوياته إذا ما بقي في منصبه.
الاّ ان القضية ستبقى حبيسة اللجان حالها حال القضايا الكبرى الأخرى كمثل ازدواج
جنسية موظفي الدولة الذين يتقلدون مناصب سيادية أو أمنية رفيعة.
يبدو أنّ هناك نقابة خفية تنظم شؤون المتحكمين وتسهر على سريان الاتفاقية غير
المكتوبة التي ترعى الهدنة الأبدية بين أفراد الطبقة الحاكمة على صعيد المنافع
الشخصية والامتيازات وغض النظر عما قد يقترفه الآخرون. وكل أعضاء الطبقة السياسية
هم أعضاء بررة في تلك النقابة الافتراضية، يساريين ومحافظين، ليبراليين ومتشددين.
الطريف في طبقتنا السياسية، انهم كأفراد، ليس هناك أحسن منهم وليس هناك أرقى
من تصريحاتهم، حيث اننا نسمعهم دائما يحثون ويدعون ويناشدون وينددون ويطالبون.
ولكن حين يجتمعون لا نلمس لهم أي أداء حقيقي على أرض الواقع، فطالما انّ الكل يدعو
ويطالب ويحث ويناشد، لن نرى أو نسمع أحدا يأمر أو ينفذ. أي انهم عاجزون عن تقديم
أداء جماعي مُنْتِج.
وهذه إشكالية [اقصد الأداء الجماعي المُنْتِج] نعاني منها نحن كعراقيين عموما،
فكل واحد منا لديه صديق عزيز أو نسيب من طائفة أخرى نكـنُّ له كل الحب، ونَدَّعي
انه استثناء من طائفته "الملعونة". وإذا جمعنا هؤلاء المُسْتـَثْنين
سنجد انهم يشكلون الغالبية العظمى من الآخر "الملعون". وإلى ان نُجْرِيَ
هذا الجمع البسيط سنبقى نعاني من الموت السريري.
ان السلطة في العراق تسعى سعيا حثيثا لتأسيس طبقة اجتماعية جديدة أعلى من كل
الطبقات الأخرى، وهي الطبقة السياسية. وهذا ليس سوى تكرار ممل لما كان سائدا قبل
الثورة الصناعية. اننا أمام طبقة بارونات جدد تتحكم بكل مقدرات البلد وتسيطر على
سلطاته الثلاث؛ القضائية والتشريعية والتنفيذية. لأن كل القائمين على تلك السلطات
أصبحوا بارونات. وبذلك فانّ سُبـُلَ التصحيحِ والتقويمِ باتتْ شبه معدومة في المدى
المنظور. وبمرور الأيام ستتحول الطبقة الحاكمة إلى طغمة حاكمة. ولم تكتف الطبقة
الحاكمة باستنساخ تجربة البارونات المقيتة، بل حرصت على إحياء واقتباس كل ما يضفي
الفخامة والتميُّز على الطبقة الحاكمة؛ فالوزير صار معالي الوزير، ورئيس الجمهورية
صار ينادى فخامة الرئيس، ورئيس الوزراء صار دولة الرئيس وهلم جرا.
بكل بساطة، نحن نستحضر كل ما هو رديء من عهودنا الماضية ومن تجارب المجتمعات
الأخرى، ونطبقه في وطننا دونما أي استحياء. ونترك ما كان مشرقا في تلك العهود على
اعتبار انها عهود بائدة لا ينبغي الاقتداء بها.
لقد لخص السيد كنعان مكية مؤسس "الذاكرة العراقية" وصاحب كتاب
"القسوة والصمت" حال العراق الآن بجملة واحدة، حيث قال ان العراق انتقل
من جمهورية الخوف إلى جمهورية السرقة والفساد.
الأحداث تتطابق إلى حد بعيد مع مجريات أحداث رواية مزرعة
الحيوانات للكاتب الانكليزي "جورج اورويل"، حيث يتقاسم القادة منافع
العهد الجديد مستفيدين من قوانين جديدة وضعوها هم بأنفسهم لأنفسهم، بينما الشعب
يَسفُّ التراب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق