تَمَخَّضَ عراقُ ما بعد التغيير عن بروز ثلاث كتل سياسية رئيسة ،لا رابع لها، شيعية وسنية وكردية، اما الكتل الاصغر فهي توابع صغيرة لا تذهب بعيدا عن ارادة احدى الكتل الكبرى المذكورة. وكان مصير من ينشق من الأفراد عن اي من تلك الكتل اللعنات ومن ثم النسيان بعد ان يفشل في كسب ود ولو نسبة مجهرية من اصوات الناخبين.
ولم تكن محاولات كل من الكتل الثلاث الكبرى، في إحداث اختراقات في صفوف الاخرى؛ بأفضل من المبادرات الفردية التي اقدم عليها بعض النواب والسياسيين. وأثبت مخاض تشكيل حكومة المالكي الثانية عُـقم الرهان على تحقيق اختراق جوهري في اي من الكتل. لقد كانت الخلافات الشيعية - الشيعية على اشدها قبل الانتخابات النيابية الماضية، الا انهم عادوا موحدين بعد ان تحول التنافس بين الائتلاف الوطني ودولة القانون الى صراع افقد الجهتين نسبة لا يستهان من الاصوات الشيعية التي اختارت عدم المشاركة في الانتخابات وقسم آخر بقي مصرا على خياره العلماني الذي خيبه اخفاق القوى العلمانية المستقلة في الحصول ولو على مقعد واحد في البرلمان رغم عراقة تاريخها السياسي وسمو اهدافها. اما العلماني الفائز اياد علاوي، فقد بات يُنظـَرُ اليه كجزء من القائمة العراقية لا غير، ولم يعد مطروحا كزعيم للتيار العلماني.
ورغم ما قدمه ائتلاف دولة القانون للقائمة العراقية من اغراءات الا ان الطرفين اخفقا في تشكيل حكومة بمفردهما، وضيعا فرصة حقيقية في اعادة تشكيل العملية السياسية بالكامل. وحصل الامر نفسه حين جربت "العراقية" فتح خطوط التفاوض مع التيار الصدري ومن ثم كتلة المواطن، فلم يفكر اي منهما ولو للحظة في تمرير مرشح العراقية لرئاسة الوزارة، بل بقيت القوى الشيعية مصرة على ان تكون رئاسة الوزارة محصورة في مرشح شيعي من الائتلاف الوطني. وحصل الامر نفسه حين حاول الشيعة ان يجربوا حظهم لشق القائمة العراقية، فلم يلقوا سوى نفس الصدود والرفض. اي انه حتى مكونات الكتلة نفسها غير قادرة على إحداث انشقاق حقيقي في الكتلة الأم.
السبب الاساسي الذي اعجز الطرفين عن تحقيق اختراق حقيقي في الطرف الاخر هو ان الصراع هو صراع على السلطة والنفوذ وليس صراع افكار أو رؤى سياسية واجتماعية. الشيعة يعتبرون اي بديل للقوى الشيعية هو عودة الى الوراء ويهدد الوجود الشيعي برمته. اما السنيون فيرون ان استمرار الاحزاب الشيعية في ادارة البلاد يعني مزيدا من الاقصاء ومزيدا من الارتماء في احضان ايران بالضد من مصلحة الوطن. اما الكرد فهم منشغلون بتوفير البنى التحتية لدولتهم المستقبلية، وتقتصر اهتماماتهم على تحقيق اكبر المكاسب من خلال استثمار الانقسام الطائفي.
وفي خضم الخلاف العربي - الكردي على تقاسم ثروات البلاد وتحديد الصلاحيات، اختار مسعود البرزاني ان يجرب شق التحالف الشيعي من خلال حصر الخلاف مع دولة القانون وبالذات في نوري المالكي وحسين الشهرستاني. وأكد البرزاني في خطابه في العشرين من آذار ان "الشيعة اللذين نعرفهم هم من أتباع ومناصري الحكيم والصدر، وأنهم الذين وقفوا دائما الى جانب الكرد وساندوهم"، لافتا الى أن "الكرد بدورهم وقفوا الى جانبهم وساندوهم، وسنبقى دائماً الى جانب بعضنا البعض ومساندين بعضنا البعض ومتخندقين معاً أيضاً". وفي نفس الخطاب اوضح ان "الوقت قد حان لتوضيح الحقائق لشعب كردستان والعراقيين عموماً، كي يعرفوا الخلاف بيننا وبين بغداد"، مشيراً إلى أن النقطة الأولى تنصب على "خلافنا حول عدم وجود شراكة حقيقية بين العرب (شيعة أو سنة) والكرد، لأن هذا المفهوم أصبح عديم المعنى".
لم يستفد البرزاني من درس تشكيل الحكومة المذكور، وجاءه الرد حاسما لا يقبل اي لبس؛التحالف الوطني ما زال يرفض تشطير الشيعة. وأعرب التحالف عن تفاجئه "بالتصريحات التي أطلقها مؤخراً رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني".
وردا على التشطير العربي جاءه رداً آخر اكثر بلاغة ووضوحا، حيث طالب رئيس مجلس النواب اسامة النجيفي بعدم اضعاف الواردات الاتحادية لانها تصب في مصلحة الجميع، فاذا كان هنالك عجز فسينعكس سلبا على كل العراقيين، فيما اعتبر تهديد نائب رئيس الوزراء لشؤون الطاقة حسين الشهرستاني بصلاحية الحكومة باستقطاع مستحقات إقليم كردستان على خلفية توقف صادراته النفطية "موضوعاً حكومياً". وقال النجيفي إن "الموازنة الاتحادية حددت رقماً معيناً للتصدير من قبل إقليم كردستان، ويتم ذلك بالتنسيق بين وزارة النفط العراقية وحكومة الإقليم"، داعياً لجنتي النزاهة والنفط والطاقة البرلمانيتين إلى "التحقيق سريعاً في كل ما قيل بشأن موضوع تهريب إلى إيران من أي جهة كانت وإعلام مجلس النواب بالنتائج".
اما النائب عمر الجبوري، فقد أكـَّدَ ان "العرب السنة في العراق ليسوا بحاجة لأن ينصب البعض نفسه وصيا عليهم من الزعماء المحليين أو العرب"، مبينا أن "القصد من إصرار البعض للذهاب في هذا الاتجاه هو تمزيق وحدة عرب العراق". وأضاف الجبوري أن "السنة ليسوا على استعداد لقبول أي عون غير نزيه هدفه إضعاف العراق إذا كانوا قلقين عليهم"، مستنكرا "تصريحات مسعود البارزاني التي أطلقها من أميركا وكذلك تصريحات بعض حكام الخليج العربي". ودعا الجبوري، البارزاني إلى "الكف عن اعتقال واغتيال واختطاف مئات الشباب من العرب السنة في محافظات كركوك ونينوى وديالى وصلاح الدين، وأن لا تنفرد أجهزته الحزبية بالاستحواذ على السلطات الأمنية والإدارية في كركوك".
اما ايران، الغائب الحاضر في كل ازمات البلد، فمازالت حتى يومنا تسهل تهريب نفط الاقليم عبر اراضيها محققة من خلال ذلك اكبر المكاسب على حساب ثروة الشعب العراقي. ومازلنا بانتظار موقف حكومي واضح من هذا الاستغلال المرفوض والمُسْتَنْكَر.
هكذا تبدو الصورة اليوم، فهناك رابط عربي يأبى الاندثار رغم الصراع الطائفي المرير الذي يعم العراق والشرق الاوسط. ويلوح في الافق اجماع وطني على اسقاط مبدأ استمالة الكرد لاستخدامهم كسلاح في المعركة الطائفية المحتدمة بين الشيعة والسُنّة التي آن لها ان تضع اوزارها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق