اخطر الجلسات واشقاها هي تلك التي تعقد خلف الكواليس والابواب الموصدة، بعيدا عن اعين الشعب واجهزة الاعلام، فكواليس اربيل انتجت لنا اتفاقية اربيل التي ما زالت تفاصيلها محجوبة عنا بعدَ ان تعاهد موقعوها على ابقائها طي الكتمان، رغم ما هم عليه من تناحر وتباغض. وكذلك حال مجلس نوابنا، فجلساته السرية عادة ما تقتصر على اقرار امتيازات شخصية للنواب، وهي تترافق اما مع اقرار الميزانية، او مع اقتراب الدورة النيابية من نهايتها، ونذكر جيدا كيف ان المجلس السابق قرر اسقاط سلفة المائة مليون دينار التي كانت بذمة النواب والتي اقترضوها بحجة شراء سيارات مصفحة ايضا. واذا ما علمنا ان اكثر من مائة وخمسين نائبا اعيد انتخابهم للدورة الحالية، فإن هذا يعني ان هؤلاء على الاقل لا يستحقون ان تشتري لهم الدولة سيارات جديدة طالما انهم قبضوا اثمانها منذ الدورة السابقة. وربما سيعيدون الكـَرّة ويصوتون على تمليك انفسهم السيارات الجديدة في نهاية هذه الدورة.
عمّت الشارع موجة غضب عارم ازاء تجاهل النواب لحاجات اساسية يفتقدها العاجزون والعاطلون عن العمل من ابناء شعبنا، مما حول الفضيحة الى كرة من نار يتسابق الجميع على رميها بعيدا عنهم، حيث صرحت النائبة عن دولة القانون انتصار الغريباوي "ان تمرير المقترح كان بتصويت كتلتين كبيرتين" ملمِّحَة نحو التحالف الكردستاني والقائمة العراقية. الا ان النائبة عتاب الدوري ادعت ان الاقتراح قُـدِّم من قبل هيئة رئاسة المجلس.
واكد مؤيد الطيب من التحالف الكردستاني انه "لم يكن هناك اي توجيه من كتلة معينة للتصويت على فقرة السيارات المصفحة من عدمه فالأمر ترك لقناعة النواب". واصاب رئيس مجلس النواب اسامة النجيفي كبد الحقيقة حين طالَبَ البرلمانيين بالتخلي عن السيارات المصفحة، ودعا إلى تأجيل تنفيذ قرار شرائها إلى وقت "يكون الشعب فيه أكثر تفهما لعمل البرلمانيين الشاق". وأكد رئيس مجلس النواب أن "موضوع السيارات المصفحة يوسع الفجوة بين الشعب وممثليه، ويستفز الفقراء والمحتاجين والمرضى والعاطلين عن العمل والأيتام والذين لا يهنؤون بعشاء إذا ما تحصلوا على الغداء في بلد النفط"، مشيرا إلى أن "هناك تحفظ من قبل الرأي العام إزاء ما يعتبرونه فائضاً من رفاه يتمتع به النواب". اظن ان على مجلس النواب ان ينتظر طويلا حتى يلمس الشعب ولو انجازا واحدا لمجلسه العتيد المنشغل عنه بتعزيز امتيازاته.
ولابد من الاشارة لرفض كتلة المواطن للصفقة وامتناع كل اعضائها عن التصويت لها، حيث طالبَ النائب باقر جبر الزبيدي رئيس كتلة المواطن، بعرض الجلسة السرية على الشعب لانهاء المزايدات. وقدم علاجا عمليا حين بيّنَ ان "هناك امكانية لنقض القانون والغاء التصويت الخاص به ومناقلة الاموال التي خصصت للسيارات المصفحة للفقراء والمحرومين". واضاف الزبيدي: "اننا في كتلة المواطن لم نصوت ومازلنا عند رأينا بمناقلة اموالها لأبواب اكثر اهمية مع اننا نعلم ان النواب ليسوا وحدهم من يستخدم السيارات المصفحة.
اما التيار الصدري، فلم نسمع لأي من نوابه موقفا واضحا وقويا الا بعد ان انبرى السيد مقتدى الصدر بنفسه عبر توجيه اشد عبارات الشجب والتنديد بالنواب اللذين صوتوا لصالح القانون المذكور، وهو من القلائل اللذين ينددون بالفساد بلغة واضحة لا تقبل اللبس.
كل هذا لم يمنع نواب اخرين من الدفاع عن اقرار القانون واتهموا معارضيه بمحاولة تحقيق مكاسب انتخابية ليس الا، حيث انتقد النائب (من دولة القانون) هيثم الجبوري الكتل السياسية التي انتقدت التصويت على الصفقة وقال: "ان البرلماني مطالب ان يكون له دور رقابي، وان يقوم بالكشف على ملفات الفساد وبالتالي سيكون نقطة استهداف للعديد من المتآمرين والتنظيمات الارهابية"، واشار الى "ان هذه الهجمة على اعضاء مجلس النواب هي هجمة مقصودة من اجل تقليل الثقة الموجودة ما بين المواطن العراقي والنائب ، وهي تشويه لعمل مجلس النواب من قبل بعض المندسين في العملية السياسية لاضعاف السياسة في البلاد". وهيثم الجبوري هو نفسه من دافع عن اقرار رواتب للنواب اعلى من رواتب الوزراء حين شُرِّعَ قانون رواتب الرئاسات الثلاث. اما النائب جواد البزوني فقد اكد ان "اعضاء مجلس النواب صوتوا على فقرة السيارات المصفحة بكل قناعة و لا اعتقد ان هناك الغاء لاي قرار اتخذ تحت قبة البرلمان".
وافادت مستشارة رئيس الوزراء مريم الريس ان "موضوع تخصيص مبالغ ضمن الموازنة لشراء سيارات مصفحة لاعضاء مجلس النواب لاقى تضخيما اعلاميا وكأنه سابقة خطيرة غير موجودة في دول العالم". نعم يا حضرة المستشارة، ان ذلك سابقة خطيرة ان يجري تخصيص سيارات للنواب بخمسين مليون دولار في بلد لا يخلو اي من تقاطعاته من حشد من المتسولين والشباب اللذين امتهنوا بيع السكائر وقناني الماء وكارتات الهاتف النقال بسبب توقف عجلة الانتاج في البلد، ولا ادري اين سيذهب هؤلاء اذا ما استتب الأمن يوما وأُلـْغِيَت السيطرات.
لست ادري بأي حق ساوى النواب بينهم وبين الوزراء في الحقوق رغم الفارق الكبير في الواجبات بين الطرفين، فالوزير يعمل طوال السنة، بينما النائب يعمل اقل من نصفها، والباقي اجازات وعطل يقضيها اكثر من نصف النواب خارج العراق. ان قانون المساواة بين النائب والوزير حَوَّل مجلس النواب من جهة رقابية على السلطة التنفيذية الى موسسة ربحية تحاول تأمين مصالح اعضائها.
كلما طفت على السطح فضيحة فساد، اتذكرُ معاويةَ بن ابي سفيان المُفْسِد الاكبر في التاريخ العربي والعالمي والذي لم تنتهي خسته وطمعه ونهمه عند حد، ذلك النهم الذي جعله يرفض تلبية نداء النبي محمد ثلاث مرات بدعوى انشغاله بتناول الطعام، مما حدى بالنبي ان يدعو عليه ويقول: ‘‘لا اشبع الله بطنه‘‘، فما شبع معاوية بعدها ابدا، وكان يقول "والله ما أترك الطعام شبعاً وإنما أتركـه إعيـاء". وبعض نوابنا ليسوا اقل طمعا من الانتهازي معاوية، بل ربما أدهى منه، إلا انهم ليس لهم ما كان له من سلطان.
ahabobi@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق