كان مؤيد الدين الأسدي البغدادي، المعروف بابن العلقمي (1197ـ1258 م) وزيراً لآخر الخلفاء العباسيين المستعصم بالله (1213ـ قـُتِلَ 1258 م) . وقبلها، في عهد الخليفة المستنصر بالله [ابو المستعصم بالله]، شَغِلَ منصب استاذ الدار، وهو منصب اداري، صاحبه مسؤول عن رعاية دار الخلافة العباسية وصيانتها، وتوفير ما يلزم ساكنيها من اسرة الخليفة. ويعزي معظم المؤرخين لهذا الوزير الرافضي [الشيعي] سقوط دولة الخلافة العباسية وابادة اهل السنة عبر اضعاف الجيش، " ثم كاتب التتارَ [المغول، وهم احدى سلالات القومية التركية]، وأطمعهم في أخذِ البلادِ ، وسهل عليهم ذلك ، وحكى لهم حقيقةَ الحالِ ، وكشف لهم ضعفَ الرجالِ " [ابن كثير ، البداية والنهاية : 13/202 ]. وحين اقترب التتار من بغداد، نهى عن قتالهم. وأكد ابن تيمية ذلك، حيث قال: " لم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين ويسعى في قطع ارزاق عسكر المسلمين وضعفهم وينهى العامة عن قتالهم ويكيد انواعا من الكيد" [منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، (5/155)].
وصار ما فعله ابن العلقمي بحق الخلافة العباسية الاسلامية، لعنة التصقت بالشيعة جميعا. وقد دأب الشيعة على رد التهمة عن الوزير الشيعي الخائن أمَلا ً بالنفاذ بجلودهم من تهمة الخيانة والعمالة، ولكن دون جدوى، بل على العكس؛ صارت سُـبَّة جارية عليهم حتى لـُقِّبوا بأحفاد ابن العلقمي.
والذي اثار استغرابي، هو تمكن ابن العلقمي بمفرده من القضاء على الدولة العباسية، ولم اشأ ان اسلم بالرواية الشعبية للحادثة بل حاولت ان استكشف الظروف المحيطة، ليس لرد التهمة عنه او لتهوين دوره كما فعل ويفعل "الروافض"، بل لأنّ الامر غير قابل للتصديق. فاكتشفتُ ان الدولة العباسية كانت تلفظُ انفاسها الاخيرة وان امير المؤمنين لم تتجاوز سلطات حكمه مدينة بغداد كما اكد ابن كثير: "ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد، فإنه خرج عن بني العباس دول حتى لم يبق مع الخليفة إلا بغداد وبعض بلاد العراق، وذلك لضعف خلافتهم واشتغالهم بالشهوات وجمع الأموال في أكثر الأوقات".
اما المستعصم فقد "كان فيه شح، وقلة معرفة، وعدم تدبير، وحب للمال، واهمال للامور، وكان يتكل على غيره، ويقدم على ما لا يليق وعلى ما يستقبح، وكان يلعب بالحَمام، ويهمل امر الاسلام" [تاريخ الإسلام، الذهبي، (11/177)]، وان هولاكو قَدِمَ بجيش جرار تعداده نحو مائتي الف مُقاتِل، لا قِبـَلَ لعشرة الاف جندي عباسي بمواجهتهم والصمود امامهم.
ان تلك المعلومات ازالت الغشاوة عن الصورة وبينت ان الوزير ما كان رجلا خارقا بل ان الدولة العباسية برمتها كانت تعاني من سكرات الموت [ الانهيار].
ولم يتحقق للوزير مأربه في تأسيس دولة شيعية، فقد قَسَّم المغولُ العراق إلى منطقتين جنوبية وعاصمتها بغداد وشمالية وعاصمتها الموصل، يديرهما حاكمان مغوليان ومساعدان من التركمان أو الأهالي الموالين. وفي الفترة ما بين 1393 - 1401م هجم المغول التيموريون بقيادة تيمورلنك على العراق ثم سلم أمرها إلى المجموعات التركمانية التي عاشت متصارعة إلى أن سيطرت الأسرة الصفوية (من التركمان) على مقاليد الأمور في العراق سنة 1508، واستمروا يحكمون بغداد حتى أخرجهم العثمانيون الأتراك سنة 1534.
وبذلك فان ابن العلقمي " أدى تاريخيا وظيفة عبقرية للذاكرة المأزومة، فالسقوط في يد التتار لم يكن لعوامل كامنة في الذات، بل لمؤامرة حاكها عملاء داخليون أشد خطرا من اليهود والنصارى مع أطراف خارجية. من جهة ثانية فوصم ابن العلقمي بالخيانة يعني وصم الطائفة بأكملها والمنتسبين لها على مر التاريخ، وتثبيت دعوى الوطنية المنقوصة عليهم أو الولاء الخارجي، وهذا سيؤدي خدمة سياسية لا تتقادم بمرور الزمن كما سيداعب الضمير الجماهيري المشدود للفروقات المذهبية" [ لطيفة الشعلان، موقع الحوار المتمدن].
وبعد الاحتلال الامريكي للعراق سنة 2003، عاد اللقب ليطرق اسماعنا بشدة؛ في البداية وُصِمَ صدام حسين بانه "علقمي" هذا الزمان، وبعدها ألْصِقَ بقادة عسكريين عراقيين أُتهِموا بالتواطؤ مع الامريكان، ثم عاد الى اهله الاصليين حين تصدى الشيعة لسدة الحكم. والطريف في الامر، ان الماكنة الاعلامية العربية والمؤسسة الدينية قد حرصتا ان يبقى ابن العلقمي عربيا عراقيا. والغريب في الامر ان الاكراد لايتهمون بالخيانة او العمالة، واذا اتهموا؛ فلا يشار لمذهبهم بل يشار لهم بالقومية.
لقد اغفل الجميع ابن علقمي الاحتلال الامريكي، اللذين جعلوا ارضهم ومياههم واجواءهم في خدمة الجيش الامريكي، وقدموا له كل الدعم اللوجستي الذي طلبه.
ان هذه الحقيقة التي يحرص الجميع على اغفالها، لا تمنع مواطني تلك الدول من سكب الدموع مدرارا حين يجتر ائمة التكفير ووعاظ السلاطين قصة سقوط بغداد بسبب غدر ابن العلقمي الشيعي.
ان هذه الطروحات تسفه المجتمعات وتبعدها عن معرفة الاسباب الحقيقية للاحداث الكبرى في التاريخ العربي، فضمن ثقافتنا الشعبية الموجهة، نحن نعرف ان ابرهة الحبشي ما كان ليهتدي الى طريق مكة لولا خيانة ابو رغال الذي ارشد ابرهة الى مكة. ان الامر لا يعدو عن محاولة غبية لشخصنة العدو القوي في صورة خصم محلي يسهل الانتصار عليه والانتقام منه، انه ليس اكثر من تصدع للوعي لتجنب المواجهة مع اعدائنا الحقيقيين، التخلف والدكتاتورية والطائفية.
أيُّ غدرٍ كان أشد وقعاً على العراق والعروبة والاسلام، هل هو غدر الوزير الذي لم يفلح في تحقيق مبتغاه أم اولئك اللذين تسببوا، دون ان يريدوا ذلك، بتغيير مذهب بغداد الى الابد، فأفلحوا حيث اخفق الوزير. بعد هذا التغيير لن تعود الامور الى ما كانت عليه، بل وباتت عروبة العراق في مهب الريح، فقد اقتصرت الاشارة لعروبة العراق بأنه "عضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية وملتزم بميثاقها" [الدستور العراقي ـ المادة الثالثة]، وسيتكفل الاحتراب الطائفي في اسقاط ما تبقى من عروبة العراق طالما يتم توصيف شيعة العراق كمجوس وهنود.
لقد تحول التناحر الطائفي الى ثقافة شعبية يخوض في غمارها الجميع، في كل زمان ومكان. وسيبقى هذا الاشكال قائما طالما اننا لا ننصف الحقائق التاريخية التي ضيعها هذا التناحر. ان قراءة موضوعية وعلمية للتاريخ كفيلة بتصحيح الكثير من المُسَلَّمات التي سَوَّقها السلاطين البغاة، وهي كفيلة ايضا بإزالة جبال من الخزعبلات والاكاذيب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق